دانيآل هو أكثر الأسفار النبوية حديثًا عن شخصية كاتبه؛ وهذا من حسن حظنا لأن حياته مليئة بالدروس ولا سيما لنا كشباب. سُبي دانيآل ورفقائه مع السبي الأول لمملكة يهوذا على يد نبوخذ نصر عام ٦٠٥ ق.م تقريبًا، وكان بعدُ فتىً صغيرًا، ومات في سن التسعين تقريبًا. ويتلخص تاريخ حياته في هذه الآية ٦: ٢٨ «فَنَجَحَ دانيآل هذَا فِي مُلْكِ دَارِيُّوسَ وَفِي مُلْكِ كُورَشَ الْفَارِسِيِّ».
مظاهر النجاح في حياة دانيآل:
نجح في العيش بأمانه للرب في أرض غريبة وظروف معاكسة (ص١ و٦).
نجح روحيًا وزمنيًا في ذات الوقت (٢: ٤٦-٤٩؛ ٥: ٢٩-٣١؛ ٦: ٢٥–٢٨).
نجح أمام الإغراءات (أطايب الملك ص١؛ عطايا بيلشاصر ص٥) وأمام التهديدات (تهديد بالقتل ص٢، جُبِّ الأسود ص٦)، نجح في بداية حياته واستمر ناجحًا للنهاية.
هو واحد من شخصيات قليلة لا يذكر له الكتاب خطية أو زلَّة واضحة، وواحد من قليلين ارتبط اسم الرب بهم (إله دانيآل٦: ٢٦). وشهد عنه ملك وثني بأنه «عبد الله الحي» (٦: ٢٠)، اللقب الذي قيل في نفس السفر عن موسى رجل الله (٩: ١١).
كان أيضًا واحدًا من شعب الله المسبي الذين وصلوا مراكز رفيعة في مملكتي بابل ومادي وفارس، وشاركه في ذلك نحميا وأستير ومردخاي.
رجولة دانيآل: قيل عنه إنه «رجل» خمس مرات في السفر، وهذا كان يصف بالأكثر الرجولة الروحية، ومن الجميل أن نلاحظ أنه قيل عنه: «رجل» وهو بعدُ فتى (٢: ٢٥)، كما وهو شيخ مُسِّن (٥: ١١).
مظاهر الرجولة في دانيآل:
الرجل المحبوب (١٠: ١١، ١٩).
رجل فيه روح الآلهة القدوسين (على حد تعبير أم الملك بيلشاصر في ٥: ١١).
رجل العزم والتصميم (ص١).
رجل الصلاة (ص٢؛ ٦؛ ٩).
رجل المكتوب، المتمسك بشريعة إلهه (ص١) والدارس لها (٩: ٢).
الرجل الشجاع وصاحب فضيلة (ص٤؛ ٥؛ ٦).
رجل الإيمان (ص١؛ ٢؛ ٦).
تزين دانيآل أيضًا بالاتضاع (٢: ٣٠؛ ٩: ٢ مع ١٢: ٨) والوفاء لأصدقائه (٢: ٤٩).
لا يفوتنا أيضًا أن السفر يتحدث عن رجال آخرين هم حننيا وميشائيل وعزريا، المعروفين بأسماء “شدرخ” و“ميشخ” و“عبدنغو”، الذين أظهروا العزيمة والإيمان والإخلاص لإلههم كدانيآل (ص١؛ ٢؛ ٣)، واستحق دانيآل ورفاقه أن يُذكروا ضمن أبطال الإيمان في عبرانيين١١: ٣٣، ٣٤.
تميز دانيآل ببره وحكمته (حزقيال١٤:١٤، ٢٠؛ ٢٨: ٣). معنى اسم دانيآل “الله دياني أو قاضيَّ” وهو اسم يلائم طبيعة نبوته التي تتكلم عن قضاء الله ودينونته على ممالك العالم.
موضوع نبوة دانيآل هو «أزمنة الأمم» (لوقا٢١: ٢٤)، والمقصود بهذا التعبير هو الفترة التي سلم الرب فيها حُكم العالم للأمم بعد أن كان الله يحكم من خلال شعبه إسرائيل، لذا يرد اسم الله في السفر “الله العَلِي” أربع مرات و“إله السماوات” أربع مرات.
ينقسم السفر لجزءين رئيسين، ص١-٦: تاريخ (له طابع نبوي)، ص٧-١٢: نبوة. مكتوب بلغتين هما العبرية والآرامية (الجزء من ٢: ٤ لنهاية ص٧). أكثر الكلمات تكرارًا هي “ملك” ومرادفاتها حيث وردت أكثر من ٣٠٠ مرة و “العَلِي” ووردت ١٤ مرة. الجزء النبوي من ص٧ إلى ص١٢ عبارة عن رؤى دانيآل النبوية بخصوص الأمم وبخصوص شعبه إسرائيل.
أشهر هذة النبوات ورد في ٩: ٢٤-٢٧، والمعروفة بنبوة السبعين أسبوع، وهي لازمة جدًا لفهم باقي نبوات الكتاب لأنها تحوي مخطط معاملات الله مع إسرائيل في ٧٠ أسبوع سنين، أي على مدى ٤٩٠ سنه ومقسمه إلى ثلاث أجزاء رئيسية:
١
. سبعة أسابيع، أي ٤٩ سنة (ع٢٥) تم فيها تجديد أورشليم بعد السبي وبدأت عام ٤٤٥ ق.م تقريبًا (نح٢: ١-٨).
٢.
اثنان وستون أسبوعًا، أي ٤٣٤ سنة (ع ٢٥، ٢٦) من بعد تجديد أورشليم حتى صلب المسيح.
٣
. أسبوع أخير، ٧ سنين، به أحداث تنتظر الإتمام في المستقبل بعد اختطاف الكنيسة.
نلاحظ أنه في هذه النبوة، كما في باقي نبوات العهد القديم، لا نجد الكنيسة لأنها كانت سر لم يكن مُعلَنًا في العهد القديم، لكن واضح لنا أن مكان الكنيسة هنا بعد الأسبوع ال ٦٩ وقبل الأسبوع ال ٧٠ وهي فترة غير محدَّدة.
ثاني أشهر الرؤى والأحلام هما حُلم تمثال نبوخذ نصر (ص٢) وحُلم دانيآل (ص٧)، اللذين فيهما يُلخِّص الوحي بشكل بديع تعاقب السيادة على العالم في فترة أزمنة الأمم على أربع إمبراطوريات عظمى هي: بابل، ومادي وفارس، واليونان، والرومان. كما يتحدث عن الإمبراطورية الرومانية في صورتها القديمة وصورتها المستقبلية بعدما تعود للحياة.
رأى نبوخذ نصر هذه الممالك على هيئة معادن تبدأ بالذهب وتنتهي بالحديد والخزف، صورة للعالم في حالته السياسية والأدبية التي هي في تدهور. ورآها دانيآل في صورة وحوش، دلالةً على شراسة الإنسان، وهذه هي نظرة الله للعالم.
والعجيب أن هذا التاريخ الطويل لممالك العالم أمكن تلخيصه هكذا في حلم قصير (أيوب٣٣: ١٥؛ مزمور٧٣: ٢٠).
ص٨ يتحدث عن رؤيا الكبش والتيس اللذين هما مملكتي مادي وفارس، واليونان (٨: ٢٠، ٢١)، ص١٠ يتحدث عن الحرب الروحية في دائرة غير المنظور، أما الجزء الأخير من السفر فُيمكن تقسيمه لجزءين من ١١: ٢-٣٥ وهو سرد مسبق لتاريخ نبوي يخص إسرائيل ومن ١١: ٣٦ لنهاية ص١٢ أحداث وقت النهاية.
تحققت نبوات دانيآل١١ بشكل مذهل في حياة الإسكندر الأكبر وبعد موته للدرجة التي جعلت رافضي فكرة الوحي يقولون إنه من غير الممكن أن يكون دانيآل تنبأ عن شيء مستقبلي، بل كتب تاريخًا. لكن من المؤكد أن دانيآل كتب قبل الإسكندر بما لا يقل عن ٢٠٠ سنة.
ذكر الرب يسوع في حديث جبل الزيتون “دانيآل النبي” (متى٢٤: ١٥؛ مرقس١٣: ١٤)، مشيرًا إلى رجسة الخراب التي تنبأ عنها والمقصود بها العبادة الوثنية في الهيكل وتخريبه. حدثت قديمًا “رِجسة” عندما وضع “أنتيوخس أبيفانس”، وهو أحد القواد الذين خَلَفوا الإسكندر الأكبر، تمثال جوبيتر أوليمبوس في الهيكل في أورشليم وقدَّم الذبائح له، كما أقام تمثالاً للإله زيوس فوق مذبح النحاس سنة ١٦٧ ق.م، وأمر بإصعاد خنزيرة على المذبح؛ وحدث خراب للهيكل سنة ٧٠ م على يد تيطس الروماني. ومستَقبَلاً سيحدث الأمران معًا: العبادة الوثنية في هيكل الله (٢تسالونيكي٢: ٣-٥) وإخراب الهيكل.
أرجو أن يشجعك هذا الموجز على قراءة سفر دانيآل حيث نتعلم من حياة شخص، ونجد مفتاح نبوات الكتاب المقدس.