أليس بلسان في جلعاد

اتكلمنا في المقال السابق عن الخطوة الأولى في التغيير وهي إدراك حاجتنا للشفاء. وفهمنا إن ده مشوار نختار نمشيه. والنهاردة هنركز على رفيق الطريق، هنمشي المشوار مع مين؟

وهنا أفكرك بيوسف - اللي عانى بسبب إخواته، أقرب الناس ليه - بمجرد ما خرج من السجن، وفي أول كلام ليه قدام فرعون، عَرّفنا مين اللي كان ماشي معاه المشوار، لمّا ذكر اسم الله عشرين مرة في حديث واحد! وكمان في تسميته لأولاده الاتنين: «وَدَعَا يُوسُفُ اسْمَ الْبِكْرِ “مَنَسَّى” قَائِلاً: “لأَنَّ اللهَ أَنْسَانِي كُلَّ تَعَبِي وَكُلَّ بَيْتِ أَبِي”. وَدَعَا اسْمَ الثَّانِي “أَفْرَايِمَ” قَائِلاً: “لأَنَّ اللهَ جَعَلَنِي مُثْمِرًا فِي أَرْضِ مَذَلَّتِي”». (تكوين ٤١: ٥١، ٥٢).

ومرات عديدة الوحي يكلمنا عن رفقة الرب ليوسف «وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ» من بداية مشواره، ويؤكد عليها في كل محطة من محطات المشوار!

ويشاور يعقوب أبوه بكل وضوح على طبيعة الرفيق الإلهي اللي صحب يوسف بطول مشواره. ويعرّفنا سر ثباته بعد كل ضربة أصابته من أرباب السهام الموجعة. فالله ما كانش ليوسف مجرد رفيق، لكنه كان إلهه وقوته وراعيه وصخرته، واللي ضمن سلامته وإثماره «يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ. فَمَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أَرْبَابُ السِّهَامِ. وَلكِنْ ثَبَتَتْ بِمَتَانَةٍ قَوْسُهُ، وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ، مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الرَّاعِي صَخْرِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ إِلهِ أَبِيكَ الَّذِي يُعِينُكَ، وَمِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي يُبَارِكُكَ …» (تكوين ٤٩: ٢٢-٢٦).

لخص الكاتب ماكس لوكادو فكرة ثبات يوسف قدام لطمات الحياة بالتصوير المعبّر ده: “هل رأيت قبلًا تمثال الهواء الضخم الذي يوضع في الاحتفالات والمناسبات الخاصة؟ هل رأيته وقد بقي ثابتًا بينما تنهال عليه اللكمات؟ ترى هل تعرف ما السبب الذي يُعيده واقفًا في كل مرة بعدما يرتد إلى الوراء بفعل اللكمات؟ السر ببساطة هو وجود ثقل هائل من الرصاص يُخفيه هذا الكائن في جذعه! هكذا كان لكيان يوسف مرساة ثابتة، لا من الرصاص أو الحديد، بل من عزيز يعقوب ومن الراعي صخر إسرائيل!”

والتشبيه ده ياخدنا لأعظم بركة أخدها يوسف: «رِضَى السَّاكِنِ فِي الْعُلَّيْقَةِ» (تثنية ٣٣: ١٦).

ويلفت نظرنا اللقب «السَّاكِنِ فِي الْعُلَّيْقَةِ»! فالعليقة المتقدة بالنار ولا تحترق، ده كان المنظر العظيم اللي شافه موسى. ومن وسطها الرب ظهر ليه واتكلم معاه عن رؤيته لمذلة شعبه وسماعه لصراخهم وعِلمه بأوجاعهم.

«وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ. فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ. فَقَالَ مُوسَى: أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟. فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ …» (الخروج ٣: ٢-٤).

ومش غريب إن تكون دي واحدة من البركات الحصرية اللي اتبارك بيها يوسف: «رضى الساكن في العليقة». فبنفس الطريقة اشتعلت فيه نار التجارب المحرقة، لكنه ما اتحرقش. ويمكن العبارة دي ما كانتش بس بركة، لكنها كمان تقرير إلهي؛ فالله رضي عن طريقة تعامل يوسف مع معاناته، ورضي عن ردود أفعاله قدام تعبه في بيت أبوه وقدام مذلته في أرض غربته. ده الكنز اللي حمله إناء يوسف الخزفي، “كيان مليان بالحضور الإلهي”. وده اللي اكتشفه فرعون بمجرد ما اتقابل معاه. «فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هذَا رَجُلاً فِيهِ رُوحُ اللهِ؟» (التكوين ٤١: ٣٨)

ده السر اللي صنع كل الفرق في حياة يوسف، استقباله للرفيق الإلهي “الساكن في العليقة”، يحل في كيانه - زي ما سكن العليقة - ويحكم تصرفاته وردود أفعاله وكلماته.

واحنا بالمثل، أوانينا خزفية ضعيفة، هشة قابلة للكسر. وكده كده هتنجرح الأواني وتتشرخ لأننا بنعيش في عالم ساقط. وأيّا كان نوع الضعف، فلازم نعي الحقيقة دي، إن لله بيسمح بوجود الضعف لغرض استخدامه كوسيلة عشان نترمي عليه ونلاقي كفايتنا وشبعنا وقوتنا فيه. «وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا…» (٢كورنثوس ٤: ٧ - ٩).

ولما يشدّد بنعمته سواعد إيدينا زي يوسف، ويشدّد رجلينا وكعبينا زي الإنسان اللي كان أعرج، نقدر نقولها مع الرسول بولس: «لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ … فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ … لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ»، لكن مش قبل ما نسمعها منه: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (٢ كورنثوس ١٢: ٩، ١٠).

ولما نوصل لاكتشاف الضعف والشرخ في أوانينا الخزفية، هيبقى عندنا الاختيار، يا إما نليّس الشروخ دي بالشمع ونبقى مزيفين ومش أصليين أو مش مُخْلصين (بلغة فيلبي ١: ١٠) فمناخدش الختم (sine-cera / بلا شمع) لما نُمتَحن في ضوء الشمس، أو نلجأ للطبيب الوحيد اللي عنده بلسان النعمة، واللي وعد: «هُوَ يُكَمِّلُكُمْ، وَيُثَبِّتُكُمْ، وَيُقَوِّيكُمْ، وَيُمَكِّنُكُمْ». وساعتها هتكفينا النعمة (جمال الله)، وهتفيض لما تمتد في شقوق الآنية زي سلاسل الذهب الخالص، فتغلّي تمنها وتعلّي قيمتها وتحلّي شكلها وتزوّد صلابتها، لما إله كل نعمة يصب فيها من اللي عنده ويملاها وينقلها من مكان لمكان لخير وبركة آخرين. زي ما قال أليشع، نبي النعمة، للأرملة «وَمَا امْتَلأَ انْقُلِيهِ» (٢ملوك٤: ٤).

وده اللي نشوفه في حياة يوسف من وقت ما كان في سجنه، ما اتكومش على نفسه، بالعكس لما شاف زمايله شكلهم متغير، سألهم: «لِمَاذَا وَجْهَاكُمَا مُكْمَدَّانِ الْيَوْمَ؟» وكأنه أمر غريب إنه يكون وجه السجين مكمد!

ومفهوم طبعًا من سؤاله إن وجهه هو شخصيًا ما كانش كدة وإلا مفيش معنى لسؤاله! ويردوا: «حَلُمْنَا حُلْمًا وَلَيْسَ مَنْ يُعَبِّرُهُ»! وكنا نتوقعه يصرخ لمجرد سماعه الكلمة “حلم”، ويقولهم: “مفيش حاجة جابتني ورا غير أحلامي”! ولكنه استمر يسمع ويفسر. ويبدو وكأن الله وقتها أعطاه بالفعل منسى وأفرايم! نسي تعبه، وابتدى يثمر ويمدَّ ايديه لمساعدة المحتاجين من وهو لسه في قلب سجنه!

وبعدها نشوفه في تعامله مع إخواته، إزاي تخطى مرحلة نسيان الماضي بكل تعبه، نسى ما هو وراء، وامتد إلى ما هو قدام في حياة مثمرة مش بس لبركة إخواته وتوبتهم ورجوعهم، لكن امتدت البركة لكل جيله ولأجيال بعده!

(وللحديث بقية)