أليس بلسان في جلعاد

لو نشأت في بيت فيه أطفال كتير - وخصوصًا لو انت مش البكري ولا آخر العنقود - ولو كنت طالع أقل من إخواتك في الامتيازات الجسدية أو الملكات العقلية، بتلاقي صرخة مكتومة بيتردد صداها جواك: “أنا أهو … أنا هنا”! بتلاقي نفسك مُجبَر تبذل مجهود إضافي عشان تبقى متشاف من أقرب الناس ليك!

والمجهود ده بيبدأ في الأول إنك تكون مطيع قوي؛ فتبقى مريح لوالديك جدًا، ظنا منك إنهم هيمدحوك. لكن ممكن تلاقي العكس هو اللي حصل! بتلاقيهم استراحوا واستكانوا لكونك خاضع جدًا ومش بتعترض على حاجة، فينسوا وجودك أكتر! فيتهيألك إنك لما تتمرد هيحسوا بوجودك، فتفاجأ إن شعور اللامبالاة والإهمال اللي كنت حاسه منهم، قلب معاهم بمعاملة صعبة. ترجع تفكَّر: طيب أشد حيلي في المذاكرة، فأتفوق علميًا أو رياضيًا أو في أي حاجة… لكن للأسف ممكن ميكونش عندك قدرات فكرية أو مؤهلات تؤهلك لكده.

آخر ملجأ ممكن تلجأ له (وخصوصا في الأوساط بتاعتنا)، هيكون الروحيات! يالا نلعب لعبة ال good kid في الروحيات. والمصيبة الكبرى أنه لما بتفشل كل المحاولات، المحاولة دي غالبًا بتنجح!

وليه الخطة دي لما بتنجح بتبقى مصيبة؟ لأن ممكن الشخص اللي بيكبر وينخرط في الروحيات كطريقة لتأكيد وجوده، ميكونش مؤمن أساسًا، فيفقد أبديته وهو ماشي في السكة دي!

وحتى لو مؤمن، بيبقى زي اللي صورهم الكتاب: «وَجَائِعِينَ يَحْمِلُونَ حُزَمًا. يَعْصِرُونَ ٱلزَّيْتَ دَاخِلَ أَسْوَارِهِمْ. يَدُوسُونَ ٱلْمَعَاصِرَ وَيَعْطَشُونَ» (أيوب ٢٤: ١٠، ١١)، ناس شايلة خير مش مستمتعة بيه، زي عامل الدليفري، ممكن يكون رايح جاي طول النهار يوصّل أكل وهو هيموت من الجوع! ده بخصوص علاقته مع الله.

أما في علاقته مع نفسه، فتلقاه عايش بإحساس دفين بالضآلة، وطول الوقت متشكك في نفسه وعمال يلوم فيها -وفي الآخرين- بسبب وبدون. حاسس مش بس أنه فيه حاجة غلط، لكن أنه هو نفسه غلط!

صراعه الأساسي في احساسه باحتياج عنيف، دائم، مُلّح للحب، وكأنه عنده فراغ أو حفرة عميقة مش جايب آخرها، إلى جانب احساسه باشتياق لكبير مش عارف مين هو!

أما في علاقاته بالناس، فالشخص ده بيبقى محبوس في 'غرفة انتظار التشجيع'! مستني ال Nod of Approval إيماءة القبول والتشجيع والمديح عمومًا، ومن أشخاص معينين خصوصًا، أشخاص مهمين عنده وكبار في عينيه. وبالرغم من حصوله عليها أحيانا، إلا أنه بيعطش للمزيد منها، فعنده استعداد يموّت نفسه عشان يرضي الناس. وفي نفس الوقت عنده حساسية مفرطة ناحية أي عدم تقدير أو رفض أو انتقاد.

طيب والحل؟

مبدئيًا، لازم نفهم أن الحل عبارة عن مشوار طويل بنختار نمشيه، ولو أنه صعب، لكن قعادنا في نفس المكان أصعب كتير لأنه ممكن يوصلنا لمرحلة تشل الحياة لما تبقى كل طاقتنا مستنزَفة في محاولات تعويض الحاجات المفقودة من زمان دي!

وأول خطوة في المشوار تبدأ بإدراك وجود المشكلة: هل أنا باستمرار قلقان وخايف من نظرة الناس ليا، ودايمًا بحاول أثبت لهم إني شخص كويس؟

هل طول الوقت بدوّر على حد كبير اتشعبط فيه، حد يحبني ويأكد لي إني صح في اللي بعمله واللي باقوله؟ وهل باعرف أستقبل المحبة لما بتتقدم لي؟

هل أنا مولع بالإنجاز؟ وهل بحاول أسعى - بطريقة غير واقعية - للكمال في كل المجالات؟ هل طول الوقت إيديا بتفرك عايزة تعمل حاجة مش عارف هي ايه؟ ورجليا عايزة تروح في حتة مش عارف هي فين؟

ولما بنتفهّم حقيقة المشكلة ونتقبلها، شوية بشوية هنبطل ننساق من غير تفكير ورا إشباع المطالب القهرية المُلّحة اللي بتنقح علينا دي. وبالرغم من استمرار وجود الاحتياج، لكننا بنتقبل الحقيقة انه مش هينفع نرجع للماضي ونعمله undo من خلال شوية محاولات! لكن هنقبل بحقيقة وجود ضعف إضافي في نقاط معينة إلى جانب الضعف العام اللي كلنا بنشترك فيه بسبب محدوديتنا كبشر! وعند النقطة دي هتبدأ تحصل -بالتدريج- حاجة جوهرية، وهي اختلاف نظرتنا للناس اللي حوالينا، فهنبطل نستني منهم … وهنبتدي نقلل توقعاتنا منهم، فنبطل نشوفهم مجرد عكاكيز موجودين بس عشان نتعكز عليهم. هنبتدي نقوم ونمشي لقدام، وإن كان بخُطى بطيئة، لكنها ثابتة. وشوية بشوية واحنا ماشيين في مشوار التغيير ده، بدل ما كنا بنستغل الناس (بنستعملهم)، هنبدأ نشوفهم بعيون جديدة، عيون شفتها النعمة، وبدل ما كنا بنمد إيدينا عشان نتسنّد، هنبدأ نمد إيدينا نسند ناس تانية، نفهمهم ويفهمونا لأننا جايين من نفس المكان! وده واحد من الأغراض العظيمة اللي الله بيقصدها من ورا سماحه بالضيقات المختلفة في حياتنا. فالله مش بس بيشكلنا عشان نبقى آنية شكلها حلو، لكن كمان عشان نبقى آنية نافعة للاستخدام الإلهي.

في سفر الأعمال أصحاح ٣ نتقابل مع واحد عاش طول عمره، لأكتر من ٤٠ سنة، بيتعامل مع عجزه واحتياجه بنفس الطريقة؛ يقعد في نفس المكان عشان يبص على الناس ويستنى منهم! لكن بمجرد ما شُفي، اتغير حاله، وبدل ما كان بيبص على الناس ويلاحظهم عشان ياخد منهم حسنة، بقيت الناس هي اللي تبص عليه وتتعجب من إحسان الله ليه! ويسجل عنه الكتاب التعبير الجميل: «إِنْ كُنَّا نُفْحَصُ الْيَوْمَ عَنْ إِحْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ سَقِيمٍ بِمَاذَا شُفِيَ هذَا… بِذَاكَ (بيسوع المسيح المصلوب والمُقَام من الأموات - بالمجروح الشافي) وَقَفَ هذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحًا» (أعمال الرسل٤: ٩، ١٠)

وإحسان الله ما زال مُتاحًا لكل إنسان سقيم مش لاقي رجلين يقف عليها نفسيًا، الرب قادر يغنيك عن حسنات الناس بإحسان الله ويوقفك على رجليك ويعمل منك نصب تذكاري لنعمته وإحسانه.

مش مستني يا ربي

موقف راح يفرحني

أو مستني كلام

هيطمني ويسعدني

أو مسنود على ناس

تتغير وتجرّحني

وأرجع لك من تاني

علشان تشفي وتشبعني