الاوكسيتوسين

تناولنا في المقالات السابقة أن السعادة مرتبطة بـ٤ هرمونات (أو نواقل عصبية) موجودة داخل مخ الإنسان، ورأينا سابقًا أول نوع وهو الدوبامين وأنه يسبب السعادة عن طريق المكافآت. واليوم ميعادنا مع النوع الثاني وهو الأوكسيتوسين Oxytocin.

الأم وجنينها

الأوكسيتوسين مشتق من لفظ لاتيني يعني الولادة السريعة، وهو موجود في عدة أدوية تُستخدم طبيًا في حالات المخاض؛ حيث إنه يُقلص عضلات جدار الرحم، فيساعد على ولادة متيسرة للمرأة.

ويأتي ارتباط الأوكسيتوسين بالسعادة، لأنه يُفرَز من المخ بكثرة في وجود العلاقات، وبما أن أول علاقة في حياة الإنسان هي مع أمه، فهذا الهرمون يعزز علاقتهما معًا فور ولادته منها.

وهذا يسبب تحول كبير في حالة المرأة النفسية وهي تلد، فتنتقل من حالة الاكتئاب الشديد قبل الولادة، وتتخلص من الأفكار السوداء التي تهاجمها (هاموت - مين هايربي العيال؟) إلى حالة الفرح الشديد بعد رؤية مولودها. لذا فأول شيء يفعله الأطباء بعد قطع الحبل السُري للمولود أن يضعوا الطفل على صدر أمه، فتشعر بسعادة غامرة.

وهذا التقلب السريع للمشاعر النسائية، منح المرأة قدرة أكبر على استيعاب الصدمات أكثر من الرجل، وهو أحد أسباب ارتفاع معدل أعمار النساء (٧٣ سنة) عن الرجال (٦٩ سنة).

لكن الأروع أن المسيح سبق وتكلم عن هذا الأمر، وقدَّر جدًا تغير مشاعر المرأة، وكعادته استخدمه شارحًا درسًا عميقًا ووعدًا جليلاً لتلاميذه، فقال لهم: «اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ. فَأَنْتُمْ كَذلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ» (يوحنا١٦: ٢١- ٢٢)، فمهما كان عمق حزننا الحالي المؤقت، سينقلب في لحظة لِفرح لا يُعبَّر عنه عند رؤية عريسنا وفادينا يسوع.

الإنسان ومحيطه

ويستمر الأوكسيتوسين مع الإنسان بعد ولادته، لأنه المسؤول عن سعادته في كل علاقاته؛ سواء العلاقات التي لم يخترها (أسرته أو أقاربه)، أو العلاقات التي يختارها لاحقًا (أصدقاؤه أو زملاؤه أو شريك حياته).

فالإنسان كائن علاقاتي بطبعه، لا يمكن أن يعيش بمفرده، ولكنه يتفاعل مع غيره من الأشخاص، ليُشبع احتياجاته من الأمان والحب والقبول، ومن أقسى الأمور عليه أن يكون وحيدًا وهو بعيد عنهم، أو وحيدًا وهو معهم!! وأصعب عقاب للمسجون ليس أن يمنعوا عنه الطعام، لكن أن يضعوه في سجن انفرادي.

لكن يا للأسف، بسبب دخول الخطية، تلوثت العلاقات وأصبحت مصدرًا للأذى والغدر والخيانة وحتى القتل، فرأينا زوج يتبرأ من زوجته (آدم وحواء)، وأخ يقتل أخيه (قايين وهابيل)، وإخوة يبيعون أخيهم (يوسف وإخوته)، وانتشرت الجرائم في أقرب وأقدس العلاقات، ووصلت الحالة أن الرب قال على لسان هوشع: «إِنَّ لِلرَّبِّ مُحَاكَمَةً مَعَ سُكَّانِ الأَرْضِ، لأَنَّهُ لاَ أَمَانَةَ وَلاَ إِحْسَانَ وَلاَ مَعْرِفَةَ اللهِ فِي الأَرْضِ. لَعْنٌ وَكَذِبٌ وَقَتْلٌ وَسِرْقَةٌ وَفِسْقٌ. يَعْتَنِفُونَ، وَدِمَاءٌ تَلْحَقُ دِمَاءً» (هوشع٤: ١، ٢).

القلب وكسره

أما المعلومة المُعزية تأتي من دراسة أجراها باحثون من جامعة ولاية ميشيغان الأميركية إلى أن الأوكسيتوسين يساعد على التئام القلوب المكسورة بالمعنى الحرفي للكلمة، وأنه في حال تعرض شخص ما لنوبة قلبية، فإن وجود هذا الهرمون في دمه في الوقت المناسب وبالكمية الكافية سيفيد كثيرًا في تجديد الخلايا المتضررة.

وهنا أقف بكل إجلال أمام كلمات المسيح الخالدة وهو يعظ في بلدته: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ «(لوقا٤: ١٨). فالمسيح يَعلم أن قلب الإنسان كُسر بسبب الخطية وعصيان الله، وأن العلاقات أصبحت سبب مرض للقلوب وليس صحتها، ولهذا فهو أتي ليسترد للإنسان سعادته المفقودة عن طريق شفاء القلوب المكسورة.

الحب وتوقيته

ليس هذا فقط، لكن ذكرت دراسة أميركية حديثة أن الأشخاص ‫الذين تفرز أدمغتهم كميات أكبر من هرمون الأوكسيتوسين يكونون أكثر ودًا ‫تجاه الآخرين، وأكثر رضًا عن حياتهم‬‬، لذا أطلقوا عليه هرمون الحب، أو هرمون العناق بحسب ما نشره موقع ”سيكولوجي توداي“.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولكن الحب له توقيت، وهذا له اثبات علمي غير الواعز الأخلاقي، فالأوكسيتوسين يتم تخزينه في الفص الخلفي للغدة النخامية، ويستخدم عند حاجة الجسم إليه، فكل علاقة لها سعادتها في وقتها الخاص.

لذا فلو تورط شاب أو شابة في الإعدادي أو الثانوي في علاقة عاطفية يسميها هو حب، فإنه يسحب من رصيد الأوكسيتوسين قبل موعده، وهذا يضغط على مخه، وبمرور الوقت سيفقد سعادته، ويحل محلها الاكتئاب والشعور بالذنب.

وبما أنه معروف علميًا أيضًا أن الأوكسيتوسين يساعد في التعلم والتذكر، بالتالي عندما يتورط الشاب في علاقة عاطفية قبل موعدها، يتم تحويل الأوكسيتوسين من خانة التعليم إلى خانة الحب، ووقتها يحصل انهيار في مستوى الشاب التعليمي والفكري والأدبي، ويؤثر بالسلب على جميع علاقاته الأخرى.

عزيزي.. العلاقات رائعة وممتعة ومهمة، لكنها قد تكون مؤذية ومستهلِكة ومُنهِكة في بعض الأحيان، لذا فالسبيل الأضمن أن تكون علاقتك الأهم والأسمى هي بإلهك، القادر على تعويضك عن أي علاقة مفقودة أو مكسورة في حياتك.

كما اختبر داود الذي تأذى من أقرب علاقاته (أبيه - اخوته - زوجته - سيده - صديقه - أبنائه)، ولكنه قال: «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي ... لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. انْتَظِرِ الرَّبَّ» (مزمور٢٧: ١٠، ١٣)، وهذا الضم أو الحضن بلغتنا هو مصدر السعادة الأبقى والأضمن لأي إنسان.