النجاح هو هدف كل واحد منا! لكي نصل إلى هذا الهدف الجميل، علينا أن نبتعد عن الأمور التي تسبب الفشل. استعرضنا أحد هذه الأسباب (المشغولية برأي الأخرين - راجع العدد السابق). ونستعرض بنعمة الرب سبب آخر إن وُجد في الحياة حتمًا سيودي إلى الفشل:
٢. المشغولية بالذات
من وجهة نظري، هي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الفشل روحيًا، إنسانيًا، وأسريًا. إن القلب البعيد عن الله، الذي لم يختبر عمل النعمة، ولم تُفتَح عيناه على حقيقته الصعبة، هو قلب مصاب بداء التمركز حول الذات، ويحتاج عملًا إلهيًا للتغيير لا يستطيعه أي إنسان.
البداية نراها في الجنة، حيث خلق الله الإنسان في حالة البراءة والبساطة. لكن الحية، أي إبليس، لم تكن راضية بهذه الحالة التي فيها الإنسان في شركة وعلاقة مع الله. فجاءت الحية الماكرة لكي تمتحن حواء عن طريق تحويل النظر من على الله المحب المنعم الجواد، إلى نفسها وحاجتها وطموحها ورغباتها…إلخ وعندما سقط الإنسان في الخطية، دخلت الخطية الرديئة إلى قلب الإنسان فانقطعت العلاقة مع الله وأصبح هناك فراغًا داخليًا يحاول الإنسان ملئه عن طريق الاهتمام والمشغولية بالذات.
نرى هذه الحالة بوضوح في مثل ذكره الرب في لوقا ١٢، مثل الغني الغبي. لا نقرأ أن هذا الغني وقع في خطية ما، لكن الشيء الوحيد الذي يؤخذ عليه هو استبعاد الله من حساباته، وتخطيط وتدبير كل الأمور لتلبية رغباته وشهواته.
فالله قد وهب هذا الإنسان غنى ووفرة في الثمار «غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ»، لكن قلب الإنسان البعيد عن الله مشغول بنفسه فنقرأ ان هذا الإنسان:
١. فكر في نفسه: أي أن مصدر خططه وأفكاره هو ذاته، وليس الله.
٢. قال: «لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي … مخازني... غلاتي... خيراتي» أي أنه نسب الفضل والخيرات والإمكانيات إلى نفسه، وليس الله.
٣. وَقَالَ: «أَعْمَلُ هَذَا: أَهْدِمُ … وَأَبْنِي … وَأَجْمَعُ ….». أي أنه يرتب ويضع خطط طويلة الأجل مستبعدًا الله من المشهد تمامًا.
٤. وَقال إلى نفسه: «يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي». أي أن كل ما يدور بداخله هو كيفية إشباع نفسه بنفسه، مهمِلًا الله وحقوقه.
هذه صورة تلخص ما وصل إليه قلب الإنسان بعد دخول الخطية: الله ليس في حساباته، مشغول بنفسه وأفكاره، يخطط بناء على ما يأتي من داخله، يظن أنه يمتلك ما بين يديه، وهدفه هو كيف يتصرف لكي يوفر لنفسه أكبر قدر من الرغد والشبع النفسي والجسدي.
أيضًا هكذا كان حال شاول الطرسوسي قبل إيمانه بالرب يسوع: شخص مشغول بنفسه وكل غرضه هو تفوقه وتقدمه عن الآخرين إذ يقول: «وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي...»، «إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى الْجَسَدِ فَأَنَا بِالأَوْلَى» (غلاطية ١: ١٤؛ فيلبي ٣: ٤)، فهذه الامتيازات والقدرات صارت له مصدر فخر وأمور يتباهى بها. وهنا يتضح لنا أن دخول الخطية إلى قلب الإنسان أوجد فراغًا داخليًا، يحاول الإنسان، بدون الله، ملئه عن طريق مقارنة نفسه بالآخرين آملًا أن شعوره أنه الأفضل يسبب شبعًا نفسيًا. فكبرياء الإنسان يرغب ليس فقط في الغنى، بل أن يكون أغنى من الآخرين، أجمل من… أشهر من… أقوى من... وهكذا كان حال شاول حتى يوم تقابله مع الرب يسوع في الطريق إلى دمشق. حيث ظهر له الرب بنور بهي، فسقط على الأرض وفقد البصر مؤقتًا. حينها أدرك أن هناك إله أعظم منه وأقوى منه، وأحكم منه... عندها صرخ للرب قائلًا «يا رب، ماذا تريد مني أن افعل؟» هناك تغيَّر قلبه ليتحول عن نفسه، وإرادته، ورغباته، ومشروعاته، وعن الرغبة الجارفة لإشباع نفسه إلى الرغبة في إتباع الرب والخضوع إلى مشيئته والسعي لإرضائه.
ويا لها من لحظة مجيدة وسعيدة، عندما يؤمن الإنسان بالرب يسوع مخلِّصًا، ويجد فيه غرضًا للحياة. لكن حتى بعد الإيمان يكتشف المؤمن أن هناك صراعًا داخليًا بين طبيعتين: الطبيعة الساقطة، والطبيعة الإلهية. مبدأ يجذب المؤمن للانشغال بالرب والأمور الروحية، ومبدأ يدفع المؤمن للانشغال بنفسه والأمور الأرضية. وهذا ما نراه في رومية٧: ٢٢-٢٤؛ إذ يقول: «فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللهِ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ. وَلَكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي». وهنا يصرخ هذا الشخص، بعدما أن اكتشف ضعفه وعجزه أمام رغبات وشهوات الطبيعة الساقطة الساكنة فيه، قائلًا: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟» فعندها يتحوَّل هذا المؤمن من السعي وراء النصرة الروحية مشغولًا ومعتمدًا على نفسه إلى التحول إلى الرب والاعتماد الكلي عليه بعمل الروح القدس فيقول: «أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا»، وأيضًا: «نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ» (رومية ٨: ٢).
إن النصرة على المشغولية بالنفس والدوران حول الذات، لا يأتي إلا بالاستناد الكامل على الرب وعمل روحه فينا؛ فأستطيع أن أتحول عن نفسي ليكون الرب يسوع الذي مات لأجلي هو غرض القلب وسيد الحياة. إن القلب الذي تغيَّر بعمل إنجيل المسيح، توقف عن التفكير المستمر في النفس والمشغولية الدائمة بجذب الانتباه إلى نفسه إذ يقول الرسول بولس: «كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الآخَرِ. «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ …. كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ؟» (١كورنثوس٤: ٦، ٧). إن عمل النعمة في القلب تعالج ما أفسَدَته الخطية، وتجعل منه شخص تحرَّر من الدوران والالتفاف حول نفسه. فلا أعود أربط كل شيء بنفسي مثلًا: أنا في هذه الغرفة مع هؤلاء الأشخاص، هل هذا يجعلني أبدو جيدًا في نظرهم؟ هل أنا أرغب في البقاء في هذا المكان؟ …إلخ. إن عمل النعمة المُغيِّر يجعلني أتوقف عن ربط كل موقف وكل محادثة بنفسي. إن كنت أتنافس في مسابقة ما، أستطيع أن استمتع وأسر بأداء الشخص الذي حصل على الميدالية الذهبية برغم من حصولي على الفضية.
صديقي الشاب صديقتي الشابة، هل تشعر أنك مهزوم أمام رغبات الذات التي تحاول جذب الانتباه إليها؟ هل تضبط نفسك في أوقات كثيرة مهمومًا ومشغولًا بإشباع رغباتك وباستمرار تربط كل شيء بنفسك؟ كما سبقنا وسردنا أن هذا الأمر سيؤدي حتمًا إلى الفشل الروحي والأسري والإنساني. أن سبب هذه أن هناك فراغ داخلي والطريقة الوحيدة لإشباع هذا الفراغ هو التمتع بمحبة المسيح ونعمته. عندها أستطيع أن أحقق غرض الله من حياتي، أن أكون مفيدًا للآخرين، مُستخدَمًا من الرب، سويًا في علاقاتي وتعاملاتي. عندما أخرج من دائرة نفسي، أستطيع أن أنشغل بحلاوة الرب وجماله، روعة الكتاب وإبداعه، أن أكون مفيدًا للآخرين لتقديم النصيحة والإرشاد.
ما أروع كلمات الرسول بولس مخاطبًا شيوخ كنيسة أفسس في سفر الأعمال ٢٠: ٣٥ «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ». إن الرب يسوع كأعظم مثال في إنكار الذات والبذل، كان يجول يصنع خيرًا، يفكر في احتياجات الآخرين، مشغولاً بالنفوس البعيدة، قلبه يتحنن على الجموع التي كانت كأنها بلا راعي، دائمًا متاح للمرضى والحزانى ليخفف أوجاعهم ويشفي أمراضهم. ليت الرب يكون موضوع انشغال القلب، والمثال الذي نتبعه.