تناولنا في المقدمة السابقة أن السعادة مرتبطة بـ٤ هرمونات (أو نواقل عصبية)، موجودة داخل مخ الإنسان، وهي دوبامين Dopamine واوكستوسين Oxytocin وسيريتونين Serotonin واندورفين Endorphin، أو تعرف اختصارًا باسم DOSE أو جرعة لأنها مأخوذة من أول حرف لكل هرمون.

معروف

الدوبامين معروف بالنسبة للكثيرين، وهو يُشعر الإنسان بالسعادة عند الحصول على المكافآت؛ سواء المادية أو المعنوية، لهذا فهو مُحفِّز جيد للإنسان لأداء مهماته.

وهذا نجده في أمور كثيرة في الحياة، فالطالب عندما تأتيه نتيجة تفوقه يشعر بالسعادة بسبب الدوبامين، والأم حين تتلقى هدية في عيدها (حتى لو وردة) تشعر بسعادة المكافأة بسبب الدوبامين، والعامِل حين يحصل على أجرة يومه الشاق يشعر بالسعادة بسبب الدوبامين.

ومن المعروف طبيًا أن كمية الدوبامين تتناقص في مخ الإنسان بمرور العُمر، بمعنى أن الدوبامين لدى الطفل أكبر من الرجل البالغ، وهذا يُفسر لنا أن الطريقة المُحببة في التعامل مع الأطفال هي عن طريق المكافأت، فلو أخبرت طفل أنك ستكرِّمه أو تعطيه هدية (حتى لو smile face) سيسمع كلامك ويشعر بسعادة كبيرة حين تفعل ما وعدته به، ومن هنا جاء مصطلح التربية بالمكافآت، أما المُراهق فلا يكترث كثيرًا بنظام المكافآت الذي أنت تحدده له، لكن سعادة التمرد وإثبات الذات عنده أكبر بكثير من سعادة الدوبامين بالمكافآت.

مطلوب

ونظرًا لأهمية الدوبامين وتأثيره الشديد في الحالة المزاجية للإنسان، فيبحث عنه الكثيرون في بعض الأدوية (مثل أوميجا ٣ بلاس)، أو الأطعمة المميزة مثل: عين الجمل والشكولاتة، والموز، واللوز، والبطيخ. لكن من عدالة الله أن كثرة الدوبامين من الخارج لا تخترق الحاجز الدماغي blood–brain barrier إلا بكميات قليلة، وإلا كانت السعادة متاحة فقط للأغنياء، أو يترك الناس أعمالهم وبيوتهم ليأكلوا الشيكولاتة ليسعدوا!!

وقلة الدوبامين تؤثر على الانتباه والتوجيه وتحريك الجسم، وقد يؤدي إلى مرض شلل الرعاش Parkinson disease، وعدم القدرة على الإحساس بالمتعة.

لكن الأمر يتخطى البحث الطبي عن الدوبامين، لأن هناك نَهم أخلاقي واجتماعي ورائه، فالواقع أن كل فعل يفعله الإنسان يبغي منه المُتعة واللذة فهو بحث عن الدوبامين بشكل غير مباشر، وهذا بالطبع يشمل كل ما هو غير شرعي، لأن الشرور تستفز إفراز الدوبامين بكميات كبيرة.

فمدمن المخدرات أو الباحث عن المواد الإباحية أو الطالبة للعلاقات العاطفية أو الراغب في مزيد من المال وحياة الرفاهية، جميعهم تذوقوا لذة الدوبامين الأولية، وأرادوا تكرارها ليشعروا بالسعادة التي يفتقدوها.

وهناك خبرين لهؤلاء؛ الأول جيد، أنه بالفعل توجد لذَّة في كل نشاط غير شَرعي وفي ارتكاب الخطية بأنواعها، وهذا يجعل الكثيرون يسعون للمزيد منها، وكأنهم يكافأون أنفسهم. وبالمناسبة أشار الكتاب المقدس لوجود هذه اللذة عندما قال سليمان الحكيم: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذ» (أمثال٩: ١٧)، وكذلك «خُبْزُ الْكَذِبِ لَذِيذٌ لِلإِنْسَان» (أمثال٢٠: ١٧).

أما الخبر الثاني؛ أن هذه اللذة غير المشروعة في فعل أو قول الشر لا تأتي بمفردها، لكن معها مرافقين إجباريين، فإن استكملنا ذات الآيات السابقة سنقرأ «وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَخْيِلَةَ هُنَاكَ، وَأَنَّ فِي أَعْمَاقِ الْهَاوِيَةِ ضُيُوفَهَ» (أمثال٩: ١٨)، وكذلك «... وَمِنْ بَعْدُ يَمْتَلِئُ فَمُهُ حَصًا» (أمثال٢٠: ١٧).

فلذة الدوبامين من مصادر شريرة تجلب معها الشعور بالذنب، والهروب من الله، والضياع، وفقدان الإنسانية، وفراغ القلب، ومشاكل رهيبة في العلاقات، والانفصال عن الله، والفشل، والاكتئاب، والحصاد المُر، وفساد الفكر واللسان، والوقوع في فخاخ الشيطان، وخسارة الفرص، ودمار الجسد والنفس والروح، وفي النهاية الجحيم الأبدي.

فإن وضعنا اللذة غير المشروعة بدوبامينها، مقابل النتائج المدمرة التي ستحدث بلا مجاملة أو استثناء، ستكون مُعادلة الدوبامين خاسرة بالمرة.

موجود

وهنا نأتي لسؤال وهل الله لا يريد لنا المُتعة واللذة؟

كيف يكون هذا وهو الذي أوجد الدوبامين في أدمغتنا؟!

وإرادة الله لسعادتنا يمكن أن نستشفها من خلال إعلانه العام؛ الطبيعة، والتي تذخر بتنوعها الرهيب وألوانها البديعة وروائحها الجميلة، فكان يكفي لله أن يخلق نوع واحد من الأكل أو الفاكهة أو النباتات، لو كان فقط غرضه استمرار حياة الإنسان، لكنه - تبارك اسمه - يريد أن يستمتع الإنسان ويَسعد بخليقة الله الممتدة.

أما الإعلان الخاص؛ الكتاب المقدس، فمليء بعشرات الإشارات التي تؤكد إرادة خالقنا لسعادتنا، ففي العهد القديم مثلاً نجد أنه من ضمن وصايا الله لشعبه القديم «وَتَأْكُلُونَ هُنَاكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ، وَتَفْرَحُونَ بِكُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَيْدِيكُمْ أَنْتُمْ وَبُيُوتُكُم» (التثنية٧:١٢)، أما في العهد الجديد فيكفي الإشارة لأول كلمة في أشهر عظة للمسيح؛ موعظة الجبل التي بدأها بـ «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوح»، والطوبى هي يالسعادة ويالفرح ويالحظ، وختم العظة بـ«اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا» (متى٥: ٣، ١٢)؛ فالله يريد فرحنا نحن وعائلاتنا ولا يستلذ أبدًا بحزننا وتكديرنا.

فالله مكتوب عنه أنه «اللهِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّع» (تيموثاوس الأولى٦: ١٧)، وهو يريد لنا السعادة المستمرة، التي قد تحمل دوبامين قليل، ولكنه ثابت ومستمر، ففارق كبيرة بين لذة وقتية تجلب المتاعب، وبين مُتعة شاملة ومستمرة، حتى لو بها ألم وتضحية.

وهذا ما فهمه كل رجال الله، فعاشوا مستمتعين بحياتهم رغم تحدياتها، مثل موسى الذي قيل عنه: «بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاة» (عبرانيين١١: ٢٤- ٢٦).

فموسى كان أمامه طريقان ليحصل على الدوبامين اللازم لسعادته؛ إما أن يتمتع وقتيًا بالخطية، ولكن سيجلب معها ويلاتها، وستنهار مُتعتها بعد دقائق، أما المتعة الثانية في أن يُذل في مشيئة الله، وكان ينظر حينها للمجازاة (المكافأة)، وهي لم تكن أمر أرضي، لكنه يكفيه أنه انضم لصف المتألمين مثل المسيح، وحينها اختبر معادلة السعادة الحقيقية، التي تعتمد على أمور غير منظورة، فعار المسيح أغنى من خزائن مصر، فما بالك بمجده؟!!