أجمل لقطة أوليمبية

كانت الأنظار تتجه صوب العداء الإنجليزي ”ديريك ريدموند“ للتويج بالميدالية الذهبية لسباق ٤٠٠ متر في أولمبياد برشلونة لعام ١٩٩٢، وبالفعل بدأ ماراثون الجري بسرعة وتفوق ملحوظ، لكن للأسف أُصيب أثناء جريه مما أثَّر على أدائه فتمكن جميع المتسابقين من تخطيه، انهارت أحلامه هو والمُتابعين له في لحظات قليلة وبسبب شِدة الإصابة فكر الانسحاب من مضمار السباق وعدم استكماله!

وسط ذهول واندهاش جميع المُشاهدين، اخترق صفوف الجمهور الكبير، رجل في منتصف العمر مُتحديًا كل المُنظمين للحدث الكبير، ونزل إلى مضمار السباق مُتجها إلى ديريك حتى لَحِقَ به، وضع يديه على كتفه ليسنده من تَعبِه، تكلم معه بحديث خاص، ثم قررا بعدها أن يستكملا السباق سويًا حتى يصلا إلى خط النهاية - بالرغم من وصول باقي المتسابقين وانعدام فرص المنافسة للحصول على ميدالية أوليمبية!

عند الوصول لنقطة النهاية، توجهت الأنظار ووسائل الإعلام كلها باتجاه ذلك الرجل الذي شجع ديريك على استكمال السباق بالرغم من إصابته وخروجه من المنافسة، وعندها اتضح أنه والد ديريك " جيم ريدموند "! تعالت صيحات الإعجاب والتشجيع من الحضور للأب وابنه لإصرارهما على استكمال السباق سويًا. وعند سؤاله لماذا أقدم على اقتحام مضمار السباق وتحفيز ابنه على استكمال السباق بالرغم من الإصابة والخروج من المنافسة، أجاب "قلت لابني، علينا أن ننظر إلى النهاية وعدم الانسحاب مهما كانت المُعطلات".

جدير بالذكر، إنه في عام ٢٠١٢، تم دعوة "جيم ريدموند " للنزول إلى مضمار السباق مرة أخرى، لكن في تلك المرة لحمل الشُعلة الاوليمبية أثناء افتتاح أولمبياد لندن ٢٠١٢ كنوع من التكريم له على تقديمه لواحدة من أجمل اللقطات الإنسانية في تاريخ الأولمبياد.

أحبائي، لمسني جدًا موقف الأب جيم الذي تصرف بتلقائية شديدة لتشجيع ابنه أثناء ضعفه ومواجهته للفشل والإحباط من الخروج من المنافسة وعدم الحصول على ميدالية أوليمبية وتحقيق حلمه وحلم بلاده. ومن هذه القصة الواقعية، تعلمت بعض الدروس، اسمح لي أن أشاركك بها قارئي العزيز.

١- حياة المُتقلبات

من الواضح جدًا، أن الحياة لا تسير على إيقاع واحد، فهناك متغيرات ومتقلبات كثيرة نواجهها أثناء رحلة الحياة ما بين النجاح والفشل، الصعود والهبوط، الصحة والمرض، الاستقرار وعدمه، وهكذا هذا ما حدث تمامًا مع ديريك ريدموند، فكل المؤشرات كانت في صالحه للحصول على ميدالية أوليمبية، لكن انقلبت كل الموازين، لم تُسعفه صحته وخبرته وتاريخه ولم يحصل على الميدالية. أمام تلك الحقيقة، حذرنا سليمان الحكيم قائلًا:

«لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ: لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ، وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ ... لِلْهَدْمِ، وَقْتٌ، وَلِلْبِنَاءِ، وَقْتٌ. لِلْبُكَاءِ، وَقْتٌ، وَلِلضَّحْكِ، وَقْتٌ. لِلنَّوْحِ، وَقْتٌ، وَلِلرَّقْصِ، وَقْتٌ. لِلْكَسْبِ، وَقْتٌ، وَلِلْخَسَارَةِ، وَقْتٌ. لِلصِّيَانَةِ وَقْتٌ وَلِلطَّرْحِ وَقْتٌ... فَرَأَيْتُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْرَحَ الإِنْسَانُ بِأَعْمَالِهِ، لأَنَّ ذلِكَ نَصِيبَهُ. لأَنَّهُ مَنْ يَأْتِي بِهِ لِيَرَى مَا سَيَكُونُ بَعْدَهُ» (جامعة٣: ١-٤، ٦، ٢٢)، لذا دعونا نُوجِّه نظرنا علي الثابت الوحيد في الحياة، شخص الرب يسوع المسيح له كل المجد «يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَد» (عبرانيين١٣: ٨).

٢ - أهمية النهايات

من الرائع أن تكون لنا بدايات قوية وثابتة - مثل ديريك - لكن الأهم هو النهايات وكيف تُنهى المسيرة؟ فكثيرًا ما نبدأ بدايات قوية في مجالات مختلفة من حياتنا سواء الزمنية، الروحية، الأسرية، المادية، لكن للأسف أحيانًا تكون النهاية ليست قوية مثل البداية فتتسم بالضعف، الفشل والانحدار. ولنا في الكتاب نماذج مُختلفة لأشخاص بدأوا بدايات قوية، لكن نهايتهم كانت مؤسفة والعكس صحيح.

وكمثال على النهايات المؤسفة:

    • شمشون بالرغم من انتذاره للرب، سُجن وقُلعت عيناه بسبب تساهله مع الخطية.
    • جيحزي، الذي كان يعيش ويخدم مع رجل الله أليشع، أصيب بالبرص بسبب الكذب والسرقة.
    • يهوذا الاسخريوطي، كان تلميذًا للمسيح، لكنه ذهب وشنق نفسه بسبب محبة المال وخيانة المسيح.

أما، عن الأمثلة للنهايات المُشرفة، فلنا دروس في كل من:

  • يعقوب: بدأ حياته بالمكر والخداع لأبيه إسحاق لنوال البركة منه، لكنه أنهى مسيرته بشيبة صالحة وحكمة بالغة.
  • بولس: بدأ حياته مضطهدًا لأتباع المسيح، لكنه تقابل معه وقبله بالإيمان فصار خادمًا له وشاهدًا عنه.
  • بطرس: أنكر معرفته بشخص المسيح أثناء أحداث الصلب، لكن الرب رّد نفسه، فصار رسولًا له و إناء للوحي.

لذلك، يركز كاتب رسالة العبرانيين على "نهاية المسيرة" فتلك هي التي تحوي النتيجة النهائية لما قبلها «اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِم» (عبرانيين١٣: ٧)

٣- محبة بلا مُعطلات

أمام ضعف ابنه، لم يتمالك الأب نفسه وأسرع لإنقاذ ابنه والتدخل لمساعدته على إنهاء السباق بالرغم من خروجه من دائرة المنافسة، لكنه سانده وشجعه حتى النهاية فصارا حديث العالم كله بعد ذلك المشهد المؤثر.

وأعظم بكثير ما يفعله معنا أبونا السماوي، إذ أرسل ابنه الوحيد - الرب يسوع المسيح - لكي ما يموت نيابة عن الخطاة - وأنا أولهم - على الصليب ليفدينا من قيود وعبودية الخطية. «هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّة» (يوحنا٣: ١٦). وبمحبته وتضحيته هذه، استطاع أن يغيِّر المشهد لكل من يؤمن به فينال به الحياة الأبدية.