قداسة الله

يا له من مشهد رهيب، ها السيد الرب جالسًا على عرش عالِ ومرتفع، وحول العرش وفوقه تطير ربوات من الملائكة الذين يدعون «السرافيم»، صوتها يعلو: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ». (إشعياء ٦: ٣، انظر أيضًا رؤيا ٤: ٨)، لقد شاهد إشعياء السيد المرتفع אֲדֹנָי (أدوناي)، في مشهد مليء بالجلال؛ فالدخان يملأ المكان واهتزت أساسات العتب من صوت الملائكة، فامتلأ إشعياء بالرعب من الرهبة فصرخ: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ» (ع٥). وعندما نزل الله ليتقابل مع الشعب في البرية «كَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا» (خروج ١٩: ١٨). من قوة المشهد والرعود والبروق وصوت البوق والدخان والضباب «لَمَّا رَأَى الشَّعْبُ ارْتَعَدُوا وَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ» (خروج ٢٠: ١٨). هذه لمحات بسيطة حينما أراد الله أن يزيح الستار للحظات ليكشف للإنسان قداسته ومجده ورهبه محضره!

في العصر الحديث مع بروز اللاهوت الليبرالي يُنادى بصلاح الإنسان وإنه ليس فاسدًا لهذه الدرجة، وأن مطالب الله من القداسة أقل بكثير مما ينادي به الأنبياء، وأن حقوق الإنسان أعلى من حقوق الله! مما قلل من أهمية قداسة الله في نظر السامعين. ولكن الكتاب يعلن هذه الحقيقة الهامة وهي أن الله «قدوس»، وعندما يقف الإنسان الفاسد أمام الله القدوس لن يستطيع أن يقول بتبجح: «كان من حقي فعل الشر» ولكنه عندها سيصمت تمامًا، ويستد فمه إذ سيقع تحت دينونة الله (رومية ٣: ١٩).

معني «قداسة الله»

نظرًا لشر الإنسان وفساد طبيعته يصعب عليه فهم «قداسة الله»، ولكن يمكن تعريف «قداسة الله»: هي عظمته الجوهرية والمطلقة التي تجعله مميَّزًا تمامًا عن كل شيء خارج ذاته، ومنفصلًا أخلاقيًا عن الخطية بصورة مطلقة.

ومن خلال الكتاب يمكن أن نفهم أن مصطلح «قدوس» بالعبرية (قدوش) الذي تكرر في العهد القديم ١٠٧ مرة، وباليونانية (هاجيوس) والذي تكرر في العهد الجديد ٢٣٣ مرة، يشيران إلى جانبين من قداسة الله:

١. القداسة المهيبة Majestic Holiness: وهي تشير إلى عظمة الله بطبيعته، ومميز على نحو فائق على كل مخلوقاته، وفي جلال غير محدود وهذا التميز الفائق للإدراك والمتسامي واضح في كل الكتاب، فالحقيقة أنه إله مهوب ومرهب (خروج ١٥: ١١؛ مزمور ٧١: ٢٢؛ لوقا ٤: ٣٤؛ رؤيا ٦: ١٠).

٢. القداسة الأخلاقية Moral Holiness: كون الله كامل أدبيًا وأخلاقيًا فهو منفصل عن الخطية، وكونه يكره الخطية فهو يطالبنا بالعفة والطهارة، بل وبنفس قداسته فقد قال في بطرس الأولى ١: ١٦: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ».

مجالات إعلان قداسة الله:

هناك مجالات كثيرة على مدار التاريخ المقدس استُعلنت فيها قداسة الله لشعبه ولكل البشر، ولكني سأكتفي بأهم ثلاثة إعلانات لقداسة الله في الكتاب:

١. الناموس (الشريعة):

كانت أول ترنيمة ترنم بها الشعب بعد الفداء والتحرير من العبودية في مصر «مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ ٱلْآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِٱلتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟» (خروج١٥ :١١) ومعني (مُعْتَزًّا فِي ٱلْقَدَاسَة glorious in holiness (أن جلال ومجد ورهبة الله يستعلن من خلال قداسته! ولذلك يستحق الهتاف والتسبيح لعجائبه التي يصنعها مع شعبه، وعندما أعطى الله الناموس كان خلاصة ٦١٣ وصية هي: «فَٱلْآنَ يَا إِسْرَائِيلُ، مَاذَا يَطْلُبُ مِنْكَ ٱلرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَّا أَنْ تَتَّقِيَ ٱلرَّبَّ إِلَهَكَ لِتَسْلُكَ فِي كُلِّ طُرُقِهِ، وَتُحِبَّهُ، وَتَعْبُدَ ٱلرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَتَحْفَظَ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَفَرَائِضَهُ ٱلَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا ٱلْيَوْمَ لِخَيْرِكَ» (تثنية١٠: ١٢، ١٣). فالتقوى هي خير إعلان من الإنسان على احترام وتقدير قداسة الله وكراهيته للشر والخطية.

٢. دينونات الله على البشر:

كل دينونة أجراها الله على الأرض كانت بسبب قداسته، فأول قضاء تم على الأرض كان الطوفان أيام نوح يقول الكتاب: «وَرَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّ شَرَّ ٱلْإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي ٱلْأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ... فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ ٱلْإِنْسَانَ ٱلَّذِي خَلَقْتُهُ، ٱلْإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، لِأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ» (التكوين ٦: ٥- ٧). فعندما زاد مكيال الشر لدرجة لم تطِقها قداسة الله: «فَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ أَمَامَ ٱللهِ، وَٱمْتَلَأَتِ ٱلْأَرْضُ ظُلْمًا، وَرَأَى ٱللهُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ». قرَّر الله أن يمحو البشر والخليقة «لِأَنَّ غَضَبَ ٱللهِ مُعْلَنٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ ٱلنَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْإِثْمِ» (رومية ١). ويا للرهبة فبعدها لما انتشر البشر على الأرض مرة أخرى صعد شرهم إلى السماء وقرر الله مرة أخرى بدون تردد أن يتعامل مع الفجور «وَإِذْ رَمَّدَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ، حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِٱلِٱنْقِلَابِ، وَاضِعًا عِبْرَةً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يَفْجُرُوا» (٢بطرس ٢: ٦) فيا لقداسته!

٣. صليب المسيح وقداسة الله:

لم يوجد تحت الشمس - منذ أن خُلقت - استعلان لقداسة الله مثلما حدث في صليب المسيح؛ فالمشهد تعجز عنه الكلمات فنحن البشر «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلْأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟» (إشعياء ٥٣: ٦- ٨). هل تصدق يا عزيزي هذا الخبر «أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ» (١كورنثوس ١٥: ٣)، لم يَمُت فقط، بل أنه «قَدْ ذُبِحَ لِأَجْلِنَا» (١كورنثوس ٥: ٧). ياللعجب لقد ذُبح المسيح لأجلي ولأجلك ولماذا ذبُح ولماذا تألم يجيب الكتاب: «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلْأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللهِ...» (١بطرس ٣: ١٨). عزيزي إن كان موت المسيح على الصليب لكي يطهر ويبرر الفاجر ويجعله مؤهَّلًا للعِشرة والشركة مع الله القدوس فأنت مدعو لهذه الشركة والعلاقة مع المسيح الذي مات من أجلك ودفع ثمن خطاياك على الصليب. فقد سحق من أجلي ومن أجلك ويدعوك الآن للقرب منه. ليتك تأخذ القرار الآن!!

قال الكارز الشهير ليونارد رافنهيل Leonard Ravenhill: إن أعظم معجزة يصنعها الله اليوم هى أن يأخذ إنسانًا نجسًا يعيش فى عالم غارق في النجاسة ويحوِّله إلى إنسان مقدَّس ويضعه مرة أخرى فى عالم منجس ويحفظه مقدسًا في هذا العالم!