ذات صباح كنت اقرأ في إنجيل متى والأصحاح السابع والعشرون؛ كنت اقرأ بهدوء وتأمل وبعد أن أنهيت الأصحاح كاملاً، وجدت نفسي أعود مرة أخرى واتأمل في الفقرة من عدد ٢٧ إلى ٣١ ووقفت طويلاً أمام هذا الجزء، مندهشًا، مأخوذًا، متعجبًا.
دعني أضع أمامك هذا الجزء ثم أعاود حديثي معك أخي الفاضل؛ يقول الكتاب:
«فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ، فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ» وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْب» (متى ٢٧: ٢٧–٣١).
دائمًا نتكلم عن آلام المسيح النفسية في ليلة الصلب، وأثناء المحاكمة. لكننا ربما نذكرها بكلمات عابرة سريعة موجزة، دون التأمل في الأمر بشيء من التفصيل. لذا دعني اليوم أشاركك بالفكرة التي ملأت قلبي وذهني ذلك الصباح، وجعلتني أجلس صامتًا، متأملاً الأمر لوقت طويل.
الفكرة التي ملأت قلبي وكل كياني؛ أن أمرًا واحدًا مما حدث مع المسيح في هذا الجزء الصغير كفيل بأن يصيب أي إنسان بأمراض نفسية وعضوية لا حصر لها، ولا يخفى عليك أن كثير من القصص الحقيقية تؤكد أن الإنسان قد يموت من فرط الحزن والضغط النفسي بسبب أمرًا واحدًا من كل هذه الضغوط التي تجرعها المسيح صامتًا، ثابتًا.
جَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ:
الكتيبة هي وحدة عسكرية مؤلفة من ٤ إلى ٦ سرايا وعدد أفرادها يتراوح ما بين ٣٠٠ إلى ١٠٠٠ فرد ويقودها عادة ضابط. وبحسب بعض المؤرخين كان قوام الكتيبة الرومانية في ذلك الوقت يتراوح ما بين ٤٨٠ إلى ٦٠٠ عسكري تخيل معي أخي العزيز هذا المشهد؛ يلتف حولك كل هذا العدد من الجنود المسلحون الذي لا يعرفون إلا العنف والقسوة والأذى. وأنت وحيدًا بينهم وتعرف جيدًا أن الأمر مُدَّبر، وأن مدبروها ينتظرون هذه اللحظة منذ سنوات.
فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا
في ساحة خالية يلتف أكثر من ٤٠٠ جندي حول إنسان برئ، لم يفعل شيئًا في حياته ضد أي إنسان، بل كان مُحبًا للجميع، مُقدمًا شفاءً للمرضى، وراحة للمتعبين، وتحريرًا للمأسورين. ويخلعوا عنه ثيابه ويُعرَّوه. ثم يلبسوه رداءً قرمزيًا؛ إمعانًا في إذلاله، والسخرية منه. لا يحتاج هذا المشهد إلى شرح، فربما الكثيرون منا لا يحتملون مجرد رؤيته، فما بالك بمن اجتاز فيه!
وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ
كانوا يتفننون في السخرية منه، كانوا يهزأون من كونه ملكًا لليهود؛ فضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه. تخيل معي كل هذا العدد يضجون ويضحكون ويسخرون من المسيح في مشهد غاية في الصعوبة والألم. ولم يكتفوا بالسخرية، بل كانوا يتلذذون بتعذيبه. وهم مستمرون في السخرية والضحك والشماتة.
وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ...
مشهد مؤسف مليء بالسخرية والاستهزاء والألم النفسي العنيف الذي لا يحتمله إنسان. فما بالك بالمسيح المحب، صاحب القلب الحاني والأحشاء الرقيقة. من عاش لأجل الجميع ولم يطلب شيئًا لنفسه. من جثا أمامه كثيرون تقديرًا لما صنعه معهم ولأجلهم؛ في هذه الليلة الحالكة يجثون أمامه ساخرين، هازئين، دون أي شفقة.
وَبَصَقُوا عَلَيْهِ
كلمتين، لكنهما يحملان الكثير من الألم والضغط والشعور بالوجع الذي لا يوصف؛ يبصقون عليه إمعانًا في التحقير منه وإذلاله. لا أنسى القصة التي سمعتها يومًا عن مشاجرة وقعت في إحدى قُرى الصعيد بين مدير مدرسة وعامل النظافة، وبعد أن احتد الشجار بينهما وفي لحظة بصق العامل في وجه المدير أمام الموجودين. هل تعرف ماذا حدث قارئي العزيز؟ لقد مات المدير بعد عدة أيام من شدة الحزن والألم النفسي الذي أصابه بعد هذا الحدث الصعب. لم يحتمل المدير أن يبصق إنسانًا في وجهه أمام نفر قليل من العاملين. فكيف نتخيل ما حدث مع المسيح في هذا المشهد الصعب؟
وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ
لم يكتفِ هؤلاء القتلة المجرمون بأن يسخروا من المسيح، لكنهم لم يتركوا أمرًا إلا وفعلوه. ورغم صعوبة ما نتأمل فيه ونراه في هذا المشهد إلا أننا لا نندهش؛ فقد كشف المسيح الأمر كله عندما أتوا ليقبضوا عليه حين قال لرؤساء الكهنة: هذه ساعتكم، وسلطان الظلمة (لوقا ٢٢: ٥٣).
لقد وضعوا إكليلاً من شوك على رأسه، وها هم الآن يضربونه بلا شفقة، يغرسون الشوك في رأسه دون رحمة، يفترسونه افتراسًا دون تفكير. يا لهم من أردياء، أشرار. ويا له من حبيب قِبِل كل هذا لأجلي ولأجلك.
وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ
بعدما انتهوا من فقرتهم السخيفة، نزعوا عنه الرداء، وألبسوه ثيابه. ومضوا به ليصلبوه. يا له من وقت عصيب، لا يمكن لإنسان أن يتصور صعوبته. كم نندهش من شراسة الإنسان، ونسجد أمام قداسة المسيح. نبكي حزنًا وألمًا أمام عنف البشر وقسوة قلوبهم، ونبكي تقديرًا وإجلالاً أمام وداعة المسيح ورقته. نتعجب من غلاظة قلوبهم، ونتعجب أكثر من رقة قلبه. يملؤنا الغضب أمام كلماتهم الرديئة وسخريتهم البغيضة، ويملؤنا الانبهار أمام صمت المسيح العجيب.
وأخيرًا أسألك قارئي الفاضل، ما رأيك في هذه المشاهد التي رغم قسوتها وصعوبتها لا تصف عُمق الألم الذي اجتاز فيه المسيح لأجلي ولأجلك؟ إنه جزء بسيط من آلام أخرى كثيرة لا توصف ولا يمكن لعقولنا المحدودة أن تسبر غورها. فربما يمكننا وصف وإدراك شيئًا عن آلام المسيح النفسية والجسدية، لكن ماذا عن آلامه الكفارية التي احتملها من يد الله العادل ليدفع قصاص خطايانا، ويسدد كل ديوننا.
كما سبق وذكرت لك أنني وقفت قليلاً أمام هذه المشاهد ذات صباح لكنني أدعوك اليوم أن تقف وتتأمل طويلاً كل ما فعله المسيح لأجلك، راجيًا أن تأخذ قرارًا واضحًا صريحًا عند قدمي المسيح؛ بالتوبة، والتغيير أو بالتكريس له دون رجوع.