2004 65

المصالحة

Bookmark and Share

لم تكن سامية، تلك الطفلة الرقيقة الآية في الجمال، تتوقع ما يحدث لها الآن، ولا حتى في أقسى الكوابيس رعبًا؛ فهل حقًّا طردها أبوها من البيت في الظلام الحالك في ليلة شتاء مخيف، سكونها الرهيب لا يقطعه سوى صوت سيول غامرة وأصوات الرعد الذي يتعانق مع البرق فيصعق السلام ويلهب الرعب في قلب سامية؟ هل حقًا طردني أبي رغم خضوعي كل السنين لعدوانه؟ هل تركني ورَماني ونسي السنوات التي خدمته فيها كجارية وليس كابنه، واحتملت كل تعذيبه لي؟

اتخذت سامية من يأسها بصيصًا من الشجاعة، وظلت وهي تضع ظهرها وكتفيها على الحائط تتحرك نحو المجهول لتبحث عن مأوى حتى تنتهي تلك الليلة الكئيبة. وعندها تذكرت مقلب قمامة المدينة، فهو ليس ببعيد عن بيتها المتواضع الذي طُردت منه. فقالت لنفسها: “ربما أجد في القمامة حماية وملجأ حتي تنتهي الليلة بسيولها وبروقها ورعودها”.

عندما اتخذت سامية من مقلب القمامة، الذي كان قد غرق بمياة الأمطار فتحول إلى أقذر الأوحال، ساترًا لتحتمي فيه، وجدت مئات الأيدي المرعبة تخرج من القمامة لتنهال عليها باللكمات واللطمات القاسية، فصرخت خوفًا وألمًا، إلى أن فقدت الوعي تمامًا.

أفاقت سامية في الصباح الذي كان أكثر ظلمة وبؤسًا من ليلة الأمس، وكانت المفاجأة أنها ليست الوحيدة في الحياة التي يحدث لها هذا، بل هي واحدة من ملايين الأطفال حول العالم الذين يُطلق عليهم “أطفال الشوارع”. وبعد المعاملة القاسية منهم، فرضوا على سامية شروطهم، وهي أن تظل تستجدي طوال اليوم وأن تعطي كل ما تحصل عليه من أموال وعطايا للعم “سلاّب” زعيمهم، مقابل أن يسمح لها بأكل شيئًا من القمامة في المساء، وإلا قتلوها. ولقد رأت سامية في العم سلاّب صورة طبق الأصل من أبيها “شدّاد”، وأيقنت أنهما عميلان للسيد “أسد” الذي كان يرأس أبيها.

في ذات يوم كانت سامية، بملابسها الرثّة، تطرق باب أجمل قصر في المدينة كلها، وكان مكتوب عليه “منزل الدكتور أنور”. وعندما دقت الجرس، نزل إليها إنسان غاية في الجمال، ويتوهج منه الفرح والحنان والإحسان. وتأكدت سامية أنه بالطبع الدكتور أنور نفسه، وتمتمت في داخلها قائلة: “حقا إنه اسم على مسمى فهو طبيب يشفي من ينظر إليه، وهو أنور وأجمل من كل من رايتهم. آه.. يا للفرق الشاسع بينه وبين سلاّب وأبي شداد والريس أسد”. شعرت سامية من نظرات الحنان التي غمرها بها الدكتور أنور أنه فهم ما تمتمت به دون أن تقوله. وسألها: “ماذا تريدين يا طفلتي العزيزة؟” أجابت: “حسنة قليلة يا سيدي”. بادرها الدكتور أنور بالقول: “هل تدخلين البيت لتتناولي معنا طعام الإفطار؟ إن بنتي فادية ستحبك جدًا”. صمتت سامية من المفاجأة، ولكن الدكتور أنور أخذ بيدها وأدخلها. غمروها في القصر بالمحبة، وقدّمت لها فادية ثيابًا جديدة، رفضت سامية أن تلبسها لشعورها بعدم الاستحقاق. وسالت سامية الدكتور أنور: “لماذا فعلت معي هذا؟ لماذا تحبني؟” أجابها: “إن المحبة هي طبيعتي، والمحبة الحقيقية يا بنتي دائمًا ما تكون غير سببية. لقد كنت دائمًا أتمني أن يكون لدي ابن أو ابنه أخرى تشبه فادية ابنتي الوحيدة، وعندما رأيتك رغبت أن تكوني هذه الابنة، فمن فضلك اشعري أنك في بيتك”. ثم تركهم ودخل أحد الأبواب.

 لمحت سامية ميدالية كبيرة من الذهب الخالص المرصّع بالمجوهرات مكتوب عليها اسم الدكتور أنور، ومكتوب عليها أيضًا “لتكريمه ولمجده”. نسيت سامية كل المعروف، وخطّطت كيف تسرق الميدالية وتهرب. وبينما فادية تجهز لها بعض الأطعمة، خطفت سامية الميدالية الكبيرة ووضعتها في حقيبتها التي تضع فيها ما تتسوله، وأسرعت تجري نحو باب القصر. ولكن، ويا للصدمة، لقد كان الدكتور أنور عند باب القصر يطلب شراء هدايا لسامية. أدركت سامية أن الدكتور أنور رأى الحقيبة التي كانت تظهر منها الميدالية فصرخت، وظلت تجري وتجري وهي تظن أن الدكتور أنور يلاحقها. عند وصولها مقلب القمامة، دفنت الحقيبة والميدالية. نظرت سامية خلفها وهي تلهث، أدركت أن الدكتور أنور لم يكن يطاردها أو يجري خلفها.

أنشب الحزن والهوان واحتقار النفس مخالبه في قلب سامية، ليس فقط لأنها أضاعت فرصة عمرها في أن تعيش في قصر الدكتور أنور، ولكن لأنه كيف تهين من أحسن إليها وتسرقه . تذكرت فادية وما أظهرته لها من صداقة وحب فائض وطاهر، فانفجرت في بكاء وصراخ هستيري حتى لم تبق لها قوة على البكاء. وقررت الانتحار، فأخذت من الزجاج المكسور على القمامة، وظلت تجرّح نفسها. ولكن فجأة رأت عربة فاخرة تقف جوارها، نزل منها الدكتور أنور واقترب إليها. حاولت الهرب، ولكن هول المفاجأة جعل رجلاها تتسمران. فما كان من الدكتور أنور إلا أنه حملها وأدخلها العربة وقال لها: “لا تخافي يا بنتي أنا عرفت كل الحقيقية”. ولم تنطق سامية ببنت شفة، فماذا عرف سوى خيانتها وسرقتها. ولكن ها هي تصل للقصر، فتأخذها فادية في أحضانها، وسامية لا تستوعب ما يحدث. وعندما ذهب الدكتور أنور ليحضر أحلى الثياب والهدايا لسامية، انحنت فادية وهمست في أذن سامية، وشرحت لها ما حدث. قالت فادية: لاحظت يا سامية كيف أن أبي أحبك، وكنت أنت استجابة رغبته، ولما أخذت الميدالية رأيت الآلام التي يتعرض لها أبي، فقررت أن أكون اسمًا على مسمى لأجل أبي، ولأني أيضًا احببتك. فقررت أن أتحمل نتائج السرقة وأدفع الثمن بدلاً عنك. لذا عُدتي إلينا يا حبيبتي سامية، وعادت الفرحة تغمر أبي وتحققت رغبته القديمة. هيا يا سامية اغتسلي والبسي الفستان الملوكي الذي أحضره لك أبي، واغفري لنفسك كما غفرنا لك، واشْعِري أبي دائما أنك ابنته بالشركة المستمرة معه.

صديقي..صديقتي.. أدرك أنك عرفت مغزى القصة؛ “فشداد” صورة للشيطان في قسوته وخيانته حتى على أولاده كما قال الرب يسوع عنه : «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ… ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ… لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ» (يوحنا8: 44). وسلاّب صورة له أيضا في أنه «اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ» (يوحنا10: 10). والريس أسد صورة له في بطشه وابتلاعة «إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بطرس5: 8).

أما سامية وأطفال الشوارع فصورة لنا نحن ضحايا إبليس كما نري ذلك في الابن الذي ضلّ وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلآَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوب (لوقا15: 16).

أما الدكتور أنور فلا بد أنك أدركت أنه صورة لأبينا السماوي المكتوب عنه : «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَار» (يعقوب1: 17).

أما ميدالية المجد فهي رمز لما سلبناه من مجد الله بخطايانا.

ولكن تبقى فادية التي نرى فيها الفداء، فلقد قبلت أن تتحمل نتائج السرقة لكي تجلب التبرير لسامية. اسمع الرب يسوع المسيح الفادي العجيب يصرخ على الصليب قائلا: «رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْه (المجد المسلوب)» (مزمور69: 4) وبهذا تتحقق خطة الله أبونا، أَبِي الأَنْوَارِ «لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ» (رومية8: 29). فبنداء محبة الله أدعوك، ولأجل فداء المسيح أرجوك! فهل نظير سامية تاتي إليه الآن معي مصليًا:

صلاة: يا أبونا السماوي يا أبو الأنوار،أتي إليك من قمامة العالم وخرنوب المرار، أشكرك لأجل ابنك الوحيد المسيح البار الذي بذلته لأجلي ليحتمل عني الخطية والعار.. اقبلني وسامحني أنا أشر الأشرار، لا لتنقذني فقط من الجحيم والنار بل لأكون مشابها لأبنك وأحيا حياة الأبرار والأحرار ..أمين

زكريا استاورو
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf