2022 178

راعي البقر والمنساس!

Bookmark and Share

كثيرًا ما يُجري الله أمورًا عظيمة وقوية ومؤثِّرة بواسطة قِلّة قليلة مِن الضعفاء. وكثيرًا ما يستخدم الله ضعفنا ليُظهِر فينا قدرته. وقدراتنا المحدودة تُعظّم قدرة الله غير المحدودة. وبهذه الطريقة يتمجَّد هو، ونتضع نحن. إذ أن الانتصارات المُحرَزة هكذا لا يُمكن أن يُعزى فضلها إلا لقوة الله وإرشاده «لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا» (٢كورنثوس٤: ٧).

لما كان نُوح يبني الفلك، كان وحده، لكنه نجح. ولما بيع يوسف عبدًا إلى مصر من قِبَل إخوته، كان وحده، لكنه نجح. ولما واجه جدعون ورجاله الثلاثمائة المديانيين وأجبروهم على الفرار بواسطة الجرار المكسورة والمصابيح المُضاءة، لم يكونوا إلا قَلّة قليلة، لكنهم نجحوا.

أَلم يكن داود غلامًا صغيرًا لم يُدعَ إلى المعركة، بل ذهب إليها ليفتقد سلامة إخوته؟! إنه لم يكن في الصفوف الأخيرة للجيش، بل كان خلف الصفوف جميعًا، ومع ذلك برز - لا ليُصبح في الصف الأول مع الملك وقائد الجيش – بل ليتفوق على الجميع، ويُصبح هو وحده بطل المعركة، وذلك لأنه كان يملك إيمانًا افتقده الجميع.

وأنت أيضًا - يا صديقي - لست إلا فردًا واحدًا، ولكنك تستطيع بقوة الله أن تكون قوة فعالة لأجل مجد الرب وخير شعب الرب. قد تظن أنك لا تملك كثيرًا لتُقدّمه، ولكن الله يقدر أن يستخدم ما بيدك إن كنت تُخضع ذاتك لمشيئته الصالحة وقيادة روحه القدوس.

فلا تَخُر عزيمتك، ولا تُشكك في مركزك الوضيع أو قدراتك الضئيلة، واذكر أن الأعمال العظيمة يقوم بها أولئك الذين يتّكلون على قدرة الله الفائقة. إن مِن عندِه كفايتنا إذ نستمدَّ منه قوَّته. فإن سمحنا له بأن يعمل بواسطتنا، نختبر قوته عاملة لبركتنا.

وقصة “شَمْجَرُ بْنُ عَنَاةَ” (قضاة٣: ٣١؛ ٥: ٦)، أيضًا تبعث الرجاء في أضعف الأشخاص، عندما يدفعهم الله إلى الأمام، وإن لم يكن يزيد عن كونه راع من رعاة البقر. لقد كان شَمْجَرُ من أكثر المغمورين في الكتاب المقدس، لكن هذا الرجل المغمور المجهول، استخدمه الله لتخليص شعبه. والله على استعداد أن يستخدم أضعف الناس أو أقلهم شأنًا، وحتى لو لم يملك من الأسلحة سوى “مِنْسَاسِ بَقَرِ”، وهو تلك العصا الخشبية المُثبَت في نهايتها قطعة معدنية مُدببة، وكانت تُستخدَم لنخس الثيران العنيدة، أو حثها على السير عندما تتوقف عن السير، وترفض التقدم بعناد وغباء! وإن “مِنْسَاسِ بَقَرِ” قد يكون أداة نافعة في رعاية البَقَر، ولكنها ستُثير السخرية والاستهزاء إذا ما استُخدِمَت كسلاح في المعارك!

ولكن شَمْجَرُ بْنُ عَنَاةَ – بمفرده – قتل سِتَّ مِئَةِ رَجُل من الفلسطينيين، بِمِنْسَاسِ الْبَقَرِ. وكان من المؤكد أن يفشل شَمْجَرُ في إحداث أي تأثير على سِتَّ مِئَةِ فلسطيني، ما لم يكن الرب معه. لقد فعل ما استطاع، بما لديه، وأكرمه الله على ذلك، وأنجح طريقه.

لقد قالت دَبُورَةُ في ترنيمتها: «فِي أَيَّامِ شَمْجَرَ بْنِ عَنَاةَ، فِي أَيَّامِ يَاعِيلَ، اسْتَرَاحَتِ الطُّرُقُ، وَعَابِرُو السُّبُلِ سَارُوا فِي مَسَالِكَ مُعْوَجَّةٍ» (قضاة٥: ٦). وكانت تصف الحالة في أيام شَمْجَرَ بْنِ عَنَاةَ، والتي ساد فيها الشر، وضاع الأمان، وانقلبت الأوضاع، حتى أضحى المسافرون لا يجرؤون على السير في الطرق التي امتلأت باللصوص، إلى الدرجة أن عابري السبيل كانوا يبحثون عن المسالك الجانبية المُعْوَجَّة، لعلهم يفلتون من قطاع الطرق. وهكذا كان النهب هو الشائع، والأمان هو الاستثناء. وكان السر واضحًا في ذلك أن الشعب ترك إلهه، فتركه إلهه للفزع والرعب والضياع.

ومن الواضح أن شَمْجَرَ لم يُبادر بالهجوم على الأعداء، إذ لا يتصور قط أن رجلاً لا يحمل معه سوى مِنْسَاسِ بَقَرِ، يأخذه سلاحًا ليهاجم به سِتَّ مِئَةِ رَجُل مِنَ الأعداء الأشداء المُسلحين. بل المتصوَّر أن شَمْجَرَ كان يرعى أبقاره في مكان ما، وتعرَّض له الغزاة بأسلوب وحشي مثير. فهل كان له أن يهرب، ويترك أرضه وأبقاره، ويعتبر النجاة نوعًا من الانتصار يغبِّطه عليه أهله وصحبه عند عودته إلى بيته!

ولم يكن حادث شَمْجَر مع الغزاة حادثًا شخصيًا لا يتكرر، ولكن هذا الاعتداء كان أكثر من اعتداء شخصي، إذ هو اعتداء على أمة وشعب، وأكثر من ذلك هو تحدٍّ وإهانة واستهتار بإله هذا الشعب. وأدرك شَمْجَر أن من الأفضل له أن يموت من أن يترك الشر يُهين اسم الرب، ويَذل شعبه.

هوجم شَمْجَر بْنِ عَنَاةَ، ولم يكن يملك سلاحًا، فإن الفلسطينيين كانوا قد جردوا شعب الرب من كل سلاح (قضاة٥: ٨؛ ١صموئيل١٣: ١٩-٢١). وكان شَمْجَرُ يرعى أبقاره، وكان يمسك بِمِنْسَاسِ الْبَقَرِ. وكان الِمِنْسَاسِ هو السلاح الوحيد الذي يحمله، ويُمكن أن يستخدمه، ولم يتوان الرجل من استخدام الوسيلة الضعيفة، ووقف ثابتًا شامخًا، واستمر مُحاربًا، لأجل مجد الله، ولصالح شعبه، وهكذا «هُوَ أَيْضًا خَلَّصَ إِسْرَائِيلَ» (قضاة٣: ٣١).

إن الأمر لم يكن رَاعِي الْبَقَرِ أو المِنْسَاس في يده، إذ هو الله الذي يمسك بالراعي والمِنْسَاس معًا. ويا لها من رسالة تشجيع ثابتة لكل مَن يخدم الرب.

فايز فؤاد
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf