2022 175

رحلة في عقل إسحاق

Bookmark and Share

الخبرة هي المعرفة أو المهارة التي نكتسبها مِنْ القيام بمهمة ما. فما يحدث لنا غالبًا يؤثر على إدراكنا وبالتبعية سلوكنا. ولعل من أكثر الألفاظ المُصاحبة للفظة “الخبرة” هي “التجربة” أو “الامتحان”. واليوم سنحاول في رحلتنا في حياة أحد الآباء العظام، أن نقف قليلاً عند بعضٍ خبرات حياتيّة وما تبعها من سلوكيات إيمانية، جعلته مِمن «لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلَهَهُمْ» (عبرانيين١١: ١٦). فلنغُص في خزائن خبرات إسحاق “ابن الموعِد”، فمن ١٢٣ مرة ذُكر اسمه في الكتاب، نمُر في عُجالة على ٧٤ مرة مُسجلة في سفر التكوين، من الوعد بميلاده (تكوين١٧) إلى رحيله (تكوين٣٥) عن عمر ١٨٠ عام.

كانت المعجزة التي دخل بها إلى العالم حديث كل الأجيال، فكيف لشيخ وشيخة أن ينجبا؟! كان الأمر كفيلاً أن يُنتج ولدُا مُرفَّهًا، كل ما يريده يُجاب باعتباره الوحيد والمستحوِذ على كل ما لأبيه (تكوين٢٥: ٥).

ولكن حدث ما لم يتوقعه أحد، فقد وضع الرب امتحانًا مفاجئًا لإبراهيم، وهو تقديم ابن الموعد، وحيده إسحاق. اقرأ تكوين٢٢، وابحث معي بين سطوره عن خبرات، تكوَّنت في عقل إسحاق نتيجة لذلك الامتحان.

١-خبرة الثقة

لقد تَعَلّم “يهوه يرأه”، والتي تعني “الله يدبِّر ويتراءى”، فلم تكن فقط اسم مكان أطلقه إبراهيم، بل خبرة ترسخت في عقل إسحاق «إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى». لقد وجد إسحاق نفسه حاملاً الحطب، وبيد أبيه النار والسكين؛ فتساءل: أين الخروف للمحرقة؟ ويا له من جواب مُفعم بالثقة: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». إلى هذه اللحظة لم تتضح مَعالم المحرقة، لكن ثقة إبراهيم بالله وضعت اطمئنانًا في قلب إسحاق تجاه الأمر.

يا لها من ممارسة أدعوك عزيزي القارئ أن تثق في الله الذي يرى ويدبِّر! ولحظات وشاهد إسحاق المذبح مُرتَّب والحطب عليه، ولكن أين الذبيحة؟ وهنا أخَبَر إبراهيم ابنه حين وضعه على الحطب: الله الذي أعطاك إياي هو يريدني أن أعطيك إياه.

تُرى ما مشاعر إسحاق من جهة أبيه ومن جهة الله؟

ربما دار هذا الصراع في عقله: أبي يخاف الله ويحبه ويحبني، والله يحبني ووعد أبي بنسل مني؛ فكلاهما لن يلحقا بي ضررًا؛ فلم يُسجل لنا الكتاب رفضه أو اعتراضه، بل كان في كمال الخضوع والتسليم على الحطب. وهنا يأتي الصوت الإلهي ومعه التدبير بكبش مُمسَكًا بقرنيه.

في المُريّا، وبصعوبة الاختبار، تعلّم الفتى الخبرة أن الرب يرى ويدبر. وتمر السنون ويصل لعامه الأربعين ويستقبل عروسه رفقة، ولكن بعد أن أتى من أين؟ من طريق بئر لحيْ رُئي (تكوين٢٤: ٦٤) والذي يعني الحي الذي يُرى. نعم، تعلّم أن الله يرى ويدبر، فكان منتظرًا عند البئر ذلك الحي، الذي يُرى ويدبر.

عزيزي، إسحاق أُمتحَن فتعلمها، وكُتبت لنا أيضًا لنتعلمها، ولا نطرح ثقتنا في الرب، مهما كانت الظروف، مرنمين مع داود «وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ، لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ» (مزمور٩: ١٠).

٢-خبرة الصلاة

لم تكن حياته سهلة، كانت رفقة زوجته عاقرًا ولم تُنجب (تكوين٢٥: ٢١)،  ولكن مَنْ تَعلّم خبرة الثقة سيسلك طريق الصلاة، حتى وإن تأخرت الاستجابة فإن الصلاة الواثقة لن تتوقف، وستُنال ولو بعد ٢٠ عامًا. لقد تفوق إسحاق في انتظار الرب أكثر من أبيه، ولم يتسرع، فكان الرد الإلهي أن يكون هو فقط من الآباء الأربعة الذي أنجب توأمين: عيسو ويعقوب. عزيزي خبرة الثقة والصلاة عند إسحاق، تُشجِّع كل منا أن نصبر للحي الذي حتمًا يُرى ويدبر.

٣-خبرة المجاعة

في تكوين ٢٦ يُسجِّل لنا الكتاب أنه حدث جوع فذهب إسحاق في جرار، وكان هذا بوصية من الرب مصحوبة بأمر “لا تنزل إلى مصر”، بل وتغرَّب في هذه الأرض! ربما التحذير من مصر نستوعبه خشية أن تتكرر ما حدث مع أبرام ولوط، ولكن الأمر بالتغرب لمَن له المواعيد بالأرض؟ ربما لو كنت مكان إسحاق لاعترضت، كيف لي الأرض وأتغرب وأيضًا أجوع؟! ربما يسمح الرب للمؤمن الحقيقي أن يمُر بمثل هذه الظروف، فهنا تُمتحن القلوب، فانظر رد فعل إسحاق خَضَعَ وأطاع وصية الرب، وانظر رد فعل الرب في مكان غربة إسحاق، زرع فأصاب ١٠٠ ضعف وباركه الرب وتعاظَمَ جدًا (ع١٢-١٤).

يا له من تناقض، مجاعة ويتعاظَمَ في الغنى، كيف؟! الإجابة في الطاعة كما أوصاه الرب مُشجِّعًا إياه بإبراهيم أبيه: «مِنْ أجْلِ أنَّ ابْرَاهِيمَ سَمِعَ لِقَوْلِي وَحَفِظَ مَا يُحْفَظُ لِي اوَامِرِي وَفَرَائِضِي وَشَرَائِعِي» (ع٥).

٤-خبرة السلام

كان لنجاح إسحاق في جرار مشاكل مِنْ أهلها، وكثيرون نازعوه على آبار المياه التي كان يحفرها. حفر واحدًا فتنازعوا عليه فدعا البئر “عسق” أي “نزاع”، وآخر “سطنهَ” أي “عداوة”، فنقل من هناك وحفر بئر آخر وأسماه “رحوبوت” ومعناه “رحبة وسعة”، وقال: لأن الرب أرحب لنا، وأثمرنا في الأرض (ع١٦-٢٥). يا له من تصرف يليق برجل الإيمان ألاّ يدخل في نزاعات، فهو يتكلف بحفر بئر جديدة ليكون في سلام مع جيرانه!

نموذج يشجعنا على توصية بولس لنا «إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ» (رومية١٢: ١٨)، فلو السلام متوقف علينا فلا بد أن نسالم ما دام مُمكنًا، حتى وإن تكلفنا كما إسحاق.

٥-خبرة مخافة الرب

في يوم لاحق كان عمره تعدى ١٣٠ عام، تصرف بحسب رغبته في أن يبارك الابن المُفضَل لديه، ولكن تدخلت رفقة وبطريقة ملتوية، وصلت البركة للموعود بها من الرب، وهو يعقوب، «فَارْتَعَدَ اسْحَاقُ ارْتِعَادا عَظِيما جِدّا»، وعلى قدر فهمي، أن ارتعاده لم يكن غيظًا من خداع يعقوب، أو لأنه بارك يعقوب على غير رغبته، لكنه ارتعد حينما أدرك أنه أراد ما لم يُرِدهُ الرب، لأن فكر الرب كان لرفقة أن كبير يُستعبَد لصغير (تكوين٢٥: ٢٣).

وهنا يلمع إيمان إسحاق، فعلى الرغم مِنْ أنه خُدع، لم يغيّر ما حدث بل سَلَّمَ، وأكد لعيسو أن البركة ليعقوب في قوله «نعم ويكون مُباركًا» (تكوين٢٧: ٣٣).

عزيزي إن عمل الإيمان في القلب يُثمر حبًا ومخافة له، فيرسخ فينا أكثر طاعته وعمل إرادته. وهذا ما نراه في إسحاق، الذي سُجل عنه «بِالإِيمَانِ إِسْحَاقُ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَعِيسُو» (عبرانيين١١: ٢٠) فيعقوب أولاً، لأن هذه إرادة الرب.

وإلى أن ألقاك في رحلة بحث جديدة في عقل الإيمان ورجاله، اشجعك أن تثق في الحي الذي يُرى، مُصليًا له، مُسلمًا لمشيئته ومُسالمًا من حولك.

مايكل موسى
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf