2016 141

تجربة المارشميلو وتأجيل المتعة

Bookmark and Share

الــ“مارشميلو” هو حلوى جافة إسفنجية مُلوَّنة بألوان زاهية مُغرية بجاذبية لا تُقاوم، للصغير والكبير. وعلى مَرِّ خمسين عامًا مضت ارتبط اسمها باختبار قوة العزيمة وصلابة الإرادة. إنَّ اختبار المارشمالو يعنى اختبار ضبط النفس. ففي عام ١٩٦٠ أجرى “د. والتر ميشيل” - عالم النفس في جامعة ستانفورد الأمريكية – تجربة شهيرة سُميت “اختبار حلوى مارشميلو”، حيث خُصِّص لمجموعة أطفال، أعمارهم من ٤ سنوات إلى ٦ سنوات - كلٍّ على حده - قطعة من “حلوى المارشميلو” اللذيذة، وُضعت أمامهم في طبق على الطاولة، وخُيِّروا خيارين:

الخيار الأول: أن يتناولون قطعة الحلوى الآن.

الخيار الثاني: أن ينتظروا ١٥ دقيقة دون أن يتناولونها، وفي هذه الحالة سيُكافؤون بالحصول على قطعة أخرى.

أُجريت التجربة على حوالي ٦٠٠ طفل. الخبر الجيد أن أغلب الأطفال اختاروا الانتظار ليحصلوا على القطعة التالية. فَمَنْ لا يُريد الحصول على حلوى أكثر؟! ولكن قلة منهم فقط أكلوا قطعة “المارشيملو” بمجرد مغادرة المراقب الغرفة.

ولكن ثلث الأطفال الذين اختاروا الانتظار تمكنوا من الانتظار حتى النهاية، وحصلوا على القطعة الثانية. هؤلاء كانت لهم إمكانية “تأجيل المُتعة”، فاستطاعوا الصمود أما الإغراء لمدة خمس عشر دقيقة كاملة. ولكن أغلب الأطفال لم يستطع السيطرة على نفسه، ولم يقوَ على الانتظار؛ انهارت عزيمتهم بعد دقائق قليلة، واستسلم لإغراء أكل قطعة الحلوى اللذيذة، فتناولها قبل الوقت المحدَّد.

وبعد ملاحظة استغرقت مئات الساعات للأطفال من خلال أشرطة فيديو، استُنتج أن الذين قاوموا الإغراء استخدموا استراتيجية “تشتيت الانتباه”؛ فبدلاً من أن يستحوذ “المارشيملو” - المُثير جدًا - على تفكيرهم، ألهى الأطفال الصبورون أنفسهم بتغطية أعينهم، متظاهرين بأنهم يلعبون “لعبة الأستغماية” تحت الطاولة، أو إعطاء ظهورهم للمارشيملو، أو بغناء أغنية أو الترنم بترنيمة. لم تُهزم رغبتهم، بل تمَّ نسيانها فحسب. البعض قال إن التفكر في المكافأة المُنتظرة أنساه اللذة الآنية. وكما قال د. والتر ميشيل: “إن كنت تُفكِّر في “المارشيملو” ولذّته، فإنك سوف تأكله. السر أن تتجنب التفكير فيه في المقام الأول”.

لم تنتهِ التجربة بعد، فقد تمَّ تتبع أفراد التجربة لسنوات طويلة. وبعد سنوات وُجدَ أن الأطفال الذين لم يتحلوا بالصبر، وتناولوا قطعة “المارشميلو” قبل الوقت المحدد، هؤلاء أصبح لديهم بعض المشكلات السلوكية في المدرسة والمنزل، إضافة إلى نتائج أقل في الامتحانات، ووقعوا في مشاكل أكثر في المستقبل حينما كبروا مثل إدمان التدخين والمخدرات أو الكحوليات، والمبالغة في استخدام الانترنت لساعات طويلة، والإفراط في الطعام مما عرَّضهم لمشاكل السمنة وزيادة الوزن. واتّسمت طباعهم بالغضب الشديد وعدم تحمل الآخرين، وعدم الانضباط في علاقاتهم الجنسية، وعدم القدرة في التحكم في الأموال، والصرف ببذخ وإسراف. وأكثرهم استدان من الآخرين. ونسبة كبرة من زيجاتهم انتهت بالفشل والطلاق. ولقد تبرهن أن الذين لم يصبروا كانوا أكثر هروبًا في المواقف الاجتماعية، وثقتهم بأنفسهم منخفضة، غير قنوعين، ميالين للحسد والحقد، وحادي الطباع.

وعلى النقيض تمامًا، فإن المجموعة التي نجحت في التماسك للنهاية، وصبروا ولم يلتهموا الحلوى وهم صغار، كانوا الأكثر نجاحًا في حياتهم. لقد أثبتت التجربة أن القادرين على السيطرة على أنفسهم والتضحية بالمنافع الحالية، من أجل منافع أخرى مستقبلية أكبر، هم الأكثر نجاحًا في إدارة شئون حياتهم الاجتماعية، والحصول على أمور مبهجة ولذيذة في حياتهم، أكثر من غيرهم. لقد كان لديهم ثقة بالنفس أكبر، وقدرة على مواجهة إحباطات الحياة، يتحملون المسؤولية بجدارة، وكانوا الأفضل دراسيًا. لقد كانوا أكثر ضبطًا للنفس، وفي أدائهم وزيجاتهم، حتى في أجسادهم وطباعهم.

وهكذا ليس من الصعب أن نرى كيف يُمكن للتحكم في الذات أن يُنبئ بالنجاح في بعض المجالات. والتحكم في الذات يعني استبدال متعة قصيرة الأجل بأهداف طويلة الأجل. وهكذا يُحرّضنا الكتاب المقدس على “التعفف” الذي هو ضبط النفس، وبخاصة أمام الشهوات، والسيطرة على الأفكار والأعمال والكلمات، وتحاشي الإسراف حتى في الأمور المشروعة، مثل الأكل والشرب والكلام. وهو حالة رائعة من الترفع والسمو عن كل الأمور الأرضية، دون شعور بالنقص أو الحرمان.

وما أحلى تلك الفضيلة، وما أردأ غيابها مِنَّا! قال الحكيم: «مَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً»، وعلى النقيض من ذلك «مَدِينَةٌ مُنْهَدِمَةٌ بِلاَ سُورٍ، الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى رُوحِهِ» (أمثال١٦: ٣٢؛ ٢٥: ٢٨). إن عدم ضبط النفس يجعل من الإنسان عبدًا، تقوده الرغبات والنزوات والاحتياجات ويفقد كرامته، إذ إنه يعيش طوال حياته بلا تحكُّم في نفسه ورغباته.

على أنه قد يسأل البعض: “كيف يُمكننا أن نضبط النفس؟” إن الطبيعة البشرية؛ أي “الجسد” حسب المُسَمَّى الكتابي، لا توجد فيها قوة لتقول: “لا” لرغباتها المشروعة أو غير المشروعة. ولقد عَبَّر الرسول بولس عن ذلك بالقول: «لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ» (رومية٧: ١٩). لكن كلمة الله تقدِّم لنا الطريق إلى ضبط النفس والتعفف والسمو:

(١) الولادة الجديدة: قال الرب يسوع: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ» (يوحنا٣: ٦). ويؤكد الرسول بطرس قائلاً: «أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى... لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ» (٢بطرس١: ٤).

(٢) قوة الروح القدس: «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ... تَعَفُّفٌ» (غلاطية٥: ٢٢، ٢٣)، و«بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ» (رومية٨: ١٣).

(٣) فضائل الإيمان: الإيمان الحقيقي بالمسيح يُنشئ فضيلة التعفف: «وَلِهَذَا عَيْنِهِ - وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ - قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى» (٢بطرس١: ٥، ٦).

(٤) التدريب الروحي بمعونة الرب: «قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ. أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ. أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي٤: ١١-١٣).

هذه كلمات نافعة جدًا خصوصًا في أيامنا الحاضرة. يا ليتنا نتمسك بها، ويا ليت تأثيرها المقدَّس يظهر في طرقنا وحياتنا.

فايز فؤاد
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf