2013 121

دروس من الحياة للحياة

Bookmark and Share
في نهاية يوم شاق، إزداد عناؤه إلى الذروة بمكالمة بعد منتصف ليلِهِ تخبرني بالخبر المؤلم.  توقَّعت أنني في كابوس سأستيقظ منه فأجد الأمور ليست كذلك، لكن عاجلتني رسالة أخرى تؤكِّد الخبر: “لقد رحل”!!  شابٌ في العشرين من عمره، حَمَلْتَهُ طفلاً، وخدمته ناشئًا، وعاصرته شابًا ينمو في القامة الروحية بشكل ملحوظ، والداه صديقان عزيزان عندي بل وكل عائلته، وأبوه شريك خدمة على صفحات “نحو الهدف” منذ نشأتها، رحيله كان بلا مقدِّمات، في حادث سيارة.  لكل هذا مجتمعًا، كان رحيل “ماركو محب نصيف” صاعقًا بالنسبة لي، كما لكثيرين.

بعد ليلة طار فيها النوم من العيون، كان حفل الوداع؛ مهيبًا رهيبًا.  حشدٌ رهيبٌ من شتى الأنحاء، حزنٌ عميقٌ يملأ القلوب فينضح على الوجوه، كلمات عميقة قيلت، وفوق الكل: حضور إلهي، واضح منه أن الله يتكلم وينبغي على كل عاقل أن يسمع.

كان للخبر صداه المدوي على صفحة ماركو على الفيسبوك وعلى صفحة اجتماعه وصفحات أصدقائه.  جُلتُ خلال هذه الصفحات، والأحداث، وردود أفعال الناس، وامتلأ عقلي أفكارًا، رأيت أن أشاركك بها.

قال صديق له: “ماركو انت درس مهم جدًا لي، مع أن الدرس صعب وفيه أسئلة مش واضحة؛ لكن ها ذاكره كويس”.  وقال آخر: “ماركو تعب (مقولة شهيرة لماركو على الفيسبوك قبل رقاده بفترة) ومايكل فهم”.  نعم ينبغي أن نبذل كل الجهد لنفهم ما يريد الله أن يعلِّمه لنا من موقف مثل هذا، اسمع ما عبَّر عنه المرنم:

الله بيقول لكن قلبي
محتاج يتعلم كيف يسمع
الله بييتكلم ليَّ وليك
الله بيكلِّم كل الناس
بصوت وصورة من حواليك
قل له يعطيك قلب حساس

لكني خشيت أن يحدث ما عبَّر عنه ثالث بقوله: “هل اعتدنا الأحزان؟!  هل اعتدنا سيناريو الفواجع؟ .. دمع العيون.. صمت الأفواه.. فورة الكلمات.. تليها ثورة الأفكار.. ثم يطل برأسه أفعى المزايدات.. وقبل أن تدفعنا ضمائرنا للتغيير، نُسكتها بأن نتناسي الأحداث إستعدادا لروتين الحياة؟!  إلا أنت يا ماركو: لقد كسرت جبل الكبرياء فينا.. فلم تعُد هناك حواجز للتغيير..  لقد فتحت طريق الانطلاق نحو التحرير من هذا السيناريو المعتاد.  نعدك: أننا سنغير المعتاد.. لنعتاد التغيير”.

نعم؛ نحن نحتاج لا أن نبكي حتى نعتاد الحزن وكأننا فعلنا كل ما علينا ثم ننسى، ولا أن نعيش في الحزن وكأننا نسترضي ضمائرنا لتكُفّ عن لومنا؛ بل علينا، ونحن نجد العزاء في الرب، أن نتعلم من الأمر دروسًا تغيِّر من الحياة، فلا يفوتنا تغيير مجيد يريد الله أن يتمِّمه فينا.

 مرة أخرى.. ربما الأخيرة

 “ماذا كان ينقصه هذا الرائع لكي يعيش” هكذا عبَّر أحدهم على الفيسبوك.  والإجابة، لا شيء؛ فقد كان مؤهَّلاً أن يعيش، لكن الأهم أنه كان مستعدًا أن يموت.  والسؤال للجميع: ماذا ينقصك لتواجه الموت؟!  إن الحياة بدون المسيح مرار، لكن الموت بدونه كارثة أبدية.  فهل استعددت؟

وقال آخر “اثنين بيموتوا: مؤمن خلَّص رسالته وخاطئ خلص زمن افتقاده!  الاختيار لك!”  فما هو اختيارك؟!  يقول الرب: «قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ.  الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ.  فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا» (تثنية30: 19)، ولتعلم أن «الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ» (يوحنا3: 36).

 يُذكر هنا شهادة إحداهن: “أنا عمري ما شفت ماركو، بس بجد عمري ما بكيت على حد كده، ووفاته أثَّرت فيَّ جدًا وخلتني أعيد حساباتي مليون مرة، وسلّمت قلبي للرب بسبب الشهادات الحلوة اللي سمعتها عنه”.  فماذا عنك قارئي العزيزي؟!

إن الحياة أقصر مما نتوقع، فلا تتركنها تضيع.

وحتى بعد الإيمان ما زالت لنا دروس في قِصَر العمر: كان ماركو يحب إنجاز أموره سريعًا وعلى أفضل ما يكون، بشهادة أبيه.  وقد أنجز في حياته القصيرة الكثير.  وحياته هذه تدعونا لأن نتعلم.  اسمع ما كتبه شاعرنا:

دي حياة واحدة بتجري
لو عشت لنفسي هاخسر
قدّسني عشات أعيشلك
والباقي أعيشه مِلكَك
شعارات زايفة باقولها
وإرادة ضعيفة عاصية
امسك إيدي وساعدني
إلمسنى وقوّي ضعفي

والعمر ظِلّ وبخار
جايلك واخد قرار
واحيا لحبك أسير
ما كفاية ده راح كتير
وكلام مافيهوش حياة
وحدك فيك النجاة
طهّرني من الذنوب
توّبني عشان اتوب

لقد كان عند ماركو شعور بأن الحياة قصيرة؛ لذا أحسَن استغلالها؛ فماذا عن كلٍّ منا؟

حتى أنت يمكنك ذلك

مَن عرفوا ماركو طويلاً، مثلي، يعلمون أنه لم يُولَد “ملاكًا” كما قد يتخيل البعض مما يقرأ الآن؛ لقد كان طفلاً - بالعامية المصرية - “شقي”، وكمراهق كانت له مشاكله ومصاعب طريقه.  لكنه تقابل في يوم عظيم من حياته مع ذلك الإله الذي يغيِّر، فحوَّل طريقه إلى النقيض، ليُخرج منه تحفة فنية رائعة، أبهجت كل من تعامل معها، ونالت كل هذه الشهادات التي سمعناها وقرأناها عنه، وهي شهادات صادقة.

لقد تعرَّف بذاك الذي غيَّر شاول الطرسوسي، القائل عن نفسه إنه «أول الخطاة»، وجعل منه بولس الرسول العظيم.  إنه أيضًا الذي غيَّر زكا والسامرية والمجنون وسجان فيلبي، وهو بعينه الذي اجتذب قلوب بطرس ويوحنا وليديا.  لا توجد عيّنة لا يقدر الرب يسوع المسيح على تغييرها.

هل يئست من نفسك؟  هل حاولت مرارًا وفشلت؟  هل سمعت كلامًا أنه لا أمل فيك؟  هل فقد الآخرون الأمل فيك؟  هل أنت “ثاني الخطاة”؟  ثق أن هناك إله يغيِّر.  إنه القائل «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ (نحكي معًا بالحجة، أو نتصالح)، يَقُولُ الرَّبُّ.  إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ (الأحمر القاني) تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ» (إشعياء1: 18).

تعال كما أنت إليه..  تعال بتوبة حقيقية..  

إنه ينتظرك..  يقدر أن يغيِّرك..  ويريد أن يغيرك.  فتعال إليه!

وحتى بالنسبة للمؤمن..  كلٌّ منا يحتاج أن يتغيَّر عن شكله، عن فكره، عن عاداته، عن طموحاته، عن روتينه، عن تعلقاته، عن إحباطاته.  والفخاري الأعظم على أتم استعداد أن يعيد التشكيل في أوانينا، ليُخرج منها إناءً للكرامة نافعًا للسيد.

ما هو حجمها؟

بمتابعة صفحة ماركو على الفيسبوك وتعليقات زملائه وأساتذته في الكلية وعائلته وأصدقائه المقربين ومؤمنين كثيرين، يلفت النظر قيمة حياة هذا الشاب في عيون من عاملوه.

قال عنه واحد من زملائه “بجد انت أكتر واحد pure (نقي) قابلته في حياتي”، ويكمل زميله المقرَّب “كان دايمًا مبتسم، كان يخلَّص مصلحتك قبل مصلحته.  أشهد إني طول فترة صداقتي ليه اللي تجاوزت 15 سنة ما شوفتش حاجة وحشة”، وأضاف نفس الصديق ما معناه أن ماركو كان مدقِّقًا جدًا في كلماته.

لقد عاش حياة طبيعية جدًا: يخرج ويدخل، يتكلم مع أصحابه بمرح، يلعب الكرة بحماس؛ لكنه في الوقت ذاته كان شهادة رائعة للمسيح بالقول والفعل.  كان عطرًا زكيًا، نشر شذى المسيح حيث كان: في المنزل، في الكنيسة، في الكلية، في ملعب الكرة، في الشارع.  لقد قدَّم للآخرين صورة رائعة عن سيده؛ صورة واضحة ارتسمت في أذهان من عاشروه.

كان تأثيره في الآخرين، بحياته أولاً، لكنه لم يكتَفِ بمجرد هذا، بل عمَّق أثره بقدرِ عطائه الشديد بمحبة حقيقية وإنكارٍ للذات؛ فأخلف خلفه فراغًا من الصعب سداده، فراغًا يعكس قيمته الحقيقية.

قيل عن الحياة «إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ» (يعقوب4: 14).  قد يخرج هذا البخار من إناء الطبخ مندفعًا ويُهدَر في الهواء أو يصيب أحدهم بالأذى، لكن إذا استُغل هذا البخار عينه فأدار “تربينة” مولد كهربي، فسيحدث تأثيرًا مرغوبًا.

دعني أنبهك أنه بعدما ترحل عن المجتمع الذي تعيش فيه بأي طريقة، لن يتذكر الناس “كم ماتش كورة” لعبته، ولا كم “لايك ع الفيسبوك لبوستاتك”، ولا “نكتة” قلتها؛ لكنهم سيتذكرون بالتأكيد لطفك في المعاملة، وكل عطاء حقيقي، كل مساعدة في وقت شدّة، وكل ابتسامة في يوم ضيق، وفوق الكل سيتذكرون كل تأثير روحي حقيقي تركته فيهم.

 هيا للعمل

من مدونات ماركو على الفيسبوك: “إذا أردت أن تكون عظيمًا؛ فاعمل في صمت” وشهد عنه واحد عَايَشَه “هكذا فعلت يا ماركو”.  هناك من يملأ الدنيا ضجيجًا ولا يُنجز شيئًا (وإن فعل شيئًا فضجيجه يفسده)، وهناك من يلتزم الصمت ولا يعمل شيئًا أيضًا.  وهناك من يعمل في صمت، وهذا النوع يحبّه السيد.  هلا كففنا عن الضجيج ونفضنا غبار السلبية، ولنقم ونبني ولا نكون بعد عارًا (نحميا2: 17، 18)؟!  وأكتفي بسرد بعض ما قيل في هذا الصدد:

قال واحد قول يهمنا جميعًا “معظمنا كان بيقول ما فيش وقت لخدمة الرب، الوقت واليوم مش مكفيني...  أحب أقول لكم: اليوم بالنسبة لماركو كان 24 ساعة برضه لا أكتر ولا أقل، بس شوفوا هو قِدِر يعمل إيه؟  اللي عايز يخدم ربنا هيقدر يخدمه في كل وقت وفي كل مكان وفي كل ساعة...  فكفوا عن التراخي والكسل!!”

قالت واحدة لم تعرفه: “الناس كلها مش قادرة تنساه للدرجة دي؟!  أنا عمري ما شفته لكن واضح إنه كان إنجيل ماشي على الأرض”.  وقالت أخرى: “غيَّر ماركو مفهومي عن الخدمة والإرسالية والشهادة للمسيح”.

قال أحد الشباب باجتماعه “لقد كانت بالأمس حفلة تكريم الأمير ماركو بمثابة أقوى رسالة وأعظم خدمة كرازية قُدِّمت على منبر الكنيسة (من حيث التأثير وعدد الحضور وقوة وصدق الكلمات والأفعال) بما يدلل على أن حياة المؤمن هي أقوى العظات وأكثرها تأثيرًا”.  فمن عاش ورغبته الصادقة مجد السيد، حتى في رقاده يكون كذلك!  والأهم أنه ما أسعد يوم اللقاء بالسيد يوم يسمع «نعمًا لك أيها العبد الصالح والأمين» (متى25: 21).

في النهاية

 مقولتان في كتابات ماركو شخصيًا رأيت أن أتركهما معك عزيزي القارئ للتفكير:

“لا تُحبََط إذا انتهى فصلٌ جميلٌ من حياتك، فبالتأكيد الله قد جهَّز واحد أفضل لك”.

“انظر للخلف واشكر الله على ما فعله لأجلك، ومن أجل كل ألم اختبرته لأنه جعلك أقوى.  انظر إلى الأمام واطلب منه أن يكمل الرحلة معك.  لا تحاول أن تبني جدرانًا تحميك من الألم؛ لأنها ستمنع عنك الفرح أيضًا”.

*         *         *         *         *

 قالت شاعرة في رثائه

لكن الورود مهما عاشت عمرها قصير

     

هي عارفة كده وعارفة وجودها له هدف

إنها تنشر الجمال للكبير والصغير

 

تلحق تكمِّل رسالتها قبل ما يوم تنقطف

كلامي ليكي يا أحلى وأرق وردة

 

مبروك عليكي اجتهدتي وأنجزتي المهمة

بابتسامة جميلة شُفت روحك صاعدة

 

بس عطر حواليا شجَّعني وإداني الهِمّة


*         *         *         *         *

هناك ورود قُطِفَت في الربيع صغيرة، لكنها أخلفت خلفها عطرًا دام طويلاً، وهناك شجرات عاشت سنين طويلة عقيمة بلا ثمر.

والاختيار لك: أي منها تكون!
عصام خليل
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf