2003 60

الضريرة التي أبصرت السماء

Bookmark and Share

وُلدت في 24 مارس 1823، في نيويورك، من أبوين فقيرين. وفي أسبوعها السادس عانت من التهاب في عينيها، فذهبت بها أمها إلى طبيب، عالجها بطريقة خاطئة أفقدتها البصر نهائيًا. ثم اكتملت المأساة إذ مات والدها قبل أن تُكمل عامها الأول، اضطرت أمها أن تعمل طوال اليوم وفي بعض الوقت لأيام متوالية بعيدًا عن البيت، لكي تتمكن من الإنفاق على فاني مع أخواتها، ففقدت بذلك أيضًا وجود أمها معها. ماذا تتوقع أن تكون حياة مثل هذه؟

كانت هذه هي بداية حياة فرانسيس جان كروسبي، الشهيرة بفاني كروسبى؛ واحدة من أكثر كتبة الترانيم الأمريكيين إثمارًا سواء من حيث غزارة الإنتاج أو عمق المحتوى (يقدر عدد ترنيماتها بما يفوق 8000 ترنيمة من أشهر الترانيم بالإنجليزية تُرجمت بعضها إلى العربية مثل: خلني قرب الصليب). وقد تميزت ترنيماتها بأنها تشع بالتفاؤل، لقد رنمت - كما لم ترنم امرأة أخرى - ترانيم الرجاء.

وتعال نقرأ القصة من البداية، لنتعلم منها.

سنوات الطفولة

رغم كل ما حلَّ بها، إلا أن الله وهبها تعويضًا أثَّر في حياتها متمثلاً في شخص جدتها والتي اتسمت بكونها مؤمنة تقية، ذكية صبورة، فكانت تأخذ فاني للطبيعة وتصف لها كل صغيرة حتى ورقة الشجرة، كما وعلّمتها الشِعر، وأهم كل شيء كانت تقرأ لها الكتاب المقدس كل يوم؛ لذا حفظت فاني الأسفار الأربعة الأولى من كلا العهدين قبل أن تكمل عامها العاشر. ورغم عدم قدرتها على الإبصار إلا أنها تعلّمت أن تمارس حياتها بصفة طبيعية بقدر الإمكان، فكانت تلعب مع أصدقائها وتتسلق الأشجار وتركب الخيل.

  • إن إلهنا لا يُغفِل أن يعوِّضنا عن أي ظروف صعبة تمر بنا، وبقدرته دائمًا يعطينا الإمكانية أن نتعايش مع ظروفنا كيفما كانت.

الحلم يتحقق

على أن ما كان يزعجها ليس حرمانها من البصر بل حرمانها من التعليم إذ لم تكن هناك مدارس للمكفوفين في ذلك الوقت. لكن رغبتها تحققت في مارس 1835 حيث افتتح أول معهد لتعليم فاقدي البصر بنيويورك، فالتحقت به فاني وقد بلغت الخامسة عشر، كطالبة حتى 1846 ثم كمدرسة حتى 1858.

في المعهد ظهر تفوقها في الإنجليزية وبصفة خاصة في الشعر حفظًا وإلقاءً ونظمًا، حتى عُرفت بشاعرة المعهد، وكثيرًا ما كان يُطلب منها أن تصوغ الشعر في المناسبات الخاصة. حتى أنها نشرت أول ديوان شعر بعنوان “الفتاة الضريرة” سنة 1844، أعقبته بدواوين أخرى.

وفي يوم استدعاها مدير المعهد، فذهبت متوقعة أنه يريدها أن تصوغ قصيدة جديدة لمناسبة ما، لكن لذهولها وجدته يحذرها بشدة من أن موهبتها قد بدأت تقودها إلى الغرور. ورغم أنها تأثرت جدًا، لكنها شهدت بعد ذلك أن كلامه كان سبب بركة لحياتها إذ تعلمت هذا الدرس الهام: الاتضاع، والذي جمَّل حياتها كلها.

  • هل نقبل توجيهات الآخرين بمنطقية ونتعلم دروسًا من النقد؟

وهل نحذر من هذا العدو الرهيب: الكبرياء؟

غمر النور السماوي

رغم الشهرة التي حققتها فاني إلا أنها كانت تشعر بشيء ينقصها لم تكن تدري ما هو. وفي 1849 اجتاح وباء الكوليرا قادمًا من الهند عبر أوربا حتى وصل إلى نيويورك. وصل الوباء إلى المعهد، وتسبب في موت نصف طلابه تقريبًا، واحدة منهم ماتت بين ذراعي فاني التي كانت تساعد في تمريض المصابين. وكاد المرض يصيبها هي أيضًا وبالجهد هربت إلى الريف. من خلال هذه الأحداث عرفت في قرارة نفسها ما كان ينقصها: أنها لم تكن مستعدة للموت.

في 20 نوفمبر 1850 حضرت فرصة كرازية في بلدتها، وهناك وصلت إلى ما تحتاج، فركعت وسلّمت حياتها للمسيح. قالت تعقيبًا على ذلك “لأول مرة أدركت أنني كنت أحاول أن أمسك العالم بيد والرب باليد الأخرى”، وفيما بعد وصفت اختبار تعرفها بالرب بأنه “غمر من نور سماوي”. وأخيرًا أصبح إله جدتها الذي سمعت عنه إلها شخصيًا لها. وقد ظهر تغيير قلبها في أشعارها، واستُبدِلت الأشعار العادية بترنيمات وتسبيحات؛ ولقد نُسيت أشعارها مع الزمن في حين بقيت ترنيماتها!

  • هل وجدت ما ينقصك؟ وهل أنت مستعد للقاء إلهك؟ وهل غمر حياتك ذلك النور السماوي؟ أم لا زلت تحاول أن تمسك الأرض بيد والرب بالأخرى؟

ثمر متكاثر

في أواخر العشرينات من عمرها بدأت تكتب الترنيمات إثر تقابلها مع وليم برادبري وهو ملحن للترانيم، فأنتجت أول ترنيمة بعنوان “إننا ذاهبون إلى الموطن المنير”. لقد كانت مشاهد السماء، مشاهد الوطن السعيد، تملأ ذهنها دائمًا.

وفي سن 71، كانت قد سمعت عظة عن “النعمة” بعدها بأيام انطلق واعظها إلى السماء.. تساءلت فاني: ماذا سيكون أول انفعال لي عندما أصل السماء؟ وسرعان ما أجابت على نفسها: ستنفتح عيناي وأرى مخلِّصي الذي خلّصني بالنعمة. عقبها كتبت كلمات ترنيمتها الشهيرة والتي اعتبرتها هي، لباقي عمرها، خير تعبير عما بداخلها:

 

كانت فاني تَنْظم الترنيمة في رأسها قبل أن تمليها لأحد. وقد أجابت عندما سُئلت عن طريقتها في كتابة الترانيم بالقول: “قد يعتقد البعض أنها موضة قديمة أن يبدأ الواحد عمله بالصلاة؛ لكنني لم أشرع مرة في كتابة ترنيمة قبل أن أسأل الرب أن يلهمني هو كلماتها”، كما قالت أيضًا في هذا الصدد: “إن الترانيم التي بقيت هي تلك التي وُلدت في لحظات صفاء النفس والاختلاء إلى الله”. وردًّا على سؤال عن سر نجاح ترنيماتها قالت “لقد خطى بي الله خطوة بخطوة في ما أوكلني عليه، وهذا ما يمكن أن يحدث في حياة كل واحد يستثمر ما أعطاه الله ولو كان صغيرا ويثابر على ذلك مستودعا الكل في يدي الرب”.

  • لنستمع إلى نصائح فاني هذه: أن نستودع إمكانياتنا المحدودة في يدي الرب القدير، ولا نقدم على عمل للرب قبل أن نقضي الوقت الكافي معه مصلين ومتعلمين من محضره.

نفس بلا جروح

لم تسر ظروف فاني سلسة، فقد فقدت طفلها الوحيد الذي أنجبته من زوجها الكفيف “الكسندر فان الستين”؛ ومع ذلك كانت فاني سعيدة جدًا بخطة الله في حياتها، فلم تستسلم يومًا للرثاء للنفس، ولم يحدث أن عكّرت صفو حياتها أو حياة الآخرين بأي أفكار سوداوية.

ردًّا على رثاء أحد الأصدقاء لها قالت: “أتعلم؛ لو كان لي أن أطلب طلبة من خالقي كانت أن أكون ضريرة؟” تساءل: “لماذا؟” أجابته “لأنني حين أصل إلى السماء سيكون أول وجه يُبهج مرآي هو وجه مخلِّصي”. وقالت لآخر “لا تضيع الوقت في الرثاء من أجلي أنا أسعد من عاش على الأرض”.

ولأنها استمتعت بمعاني نعمة الله تعلمت ألا تحمل أحقاد لأحد في قلبها. فرغم أنها فقدت بصرها بسبب خطأ طبيب، ومن شعور هذا الطبيب بالندم فَرَّ من المنطقة مذعورًا؛ لكنها لم تشعر بالمرارة تجاهه قط، قالت: “لأكثر من 85 سنة لم أشعر للحظة بذرة من الاستياء تجاهه، لأني على الدوام أومن أن الرب الطيب بهذه الطريقة كرّس حياتي للعمل الذي أقوم به”.

  • يا لها من راحة للنفس وشفاء لجروحها أن ندرك أن يد الرب التي تتدخل في أمورنا تعمل دائمًا بحكمة ما هو لخيرنا. كما وأن نعفي أنفسنا من عبء أن نحمل ضغينة للآخرين، بل أن نتعلم أن نغفر.

وأخيرا أبصرت

في أواخر حياتها قالت “عندما اتطلع عبر طرقات تسعين سنة مرت أرى أن كل ما سمحت به يد الرب كان لخيري.. إني أرى الحياة بكل ما فيها كجوقة ترانيم متناسقة تخرج أحسن نغم”، كما قالت: “إن حبي للكتاب المقدس ويقيني بقوته اليوم وأنا في التسعين أكثر من حين كنت في التاسعة عشر”.

لقد استمرت شاهدة لا بكلمات ترنيم فحسب، بل بحياتها، حتى اللحظات الأخيرة منها. وفي مساء 11 فبراير 1915 وقد ناهزت الخامسة والتسعين أَمْلَت خطاب تعزية لأحد المؤمنين المتألمين، وقبل شروق شمس يوم جديد انطلقت بسلام إلى موطنها الذي كم ترنمت عنه كثيرًا. وأخيرًا رأت عيناها نور من أحبته، ويا لها من نهاية رائعة لحياة مثمرة!

عصام خليل
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf