2004 68

الطفل أم المحفظة؟

Bookmark and Share

لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم أبدًا.. كان ذلك في أحد أيام شهر يونيو، منذ عدة سنوات مضت؛ وكنت وقتها عائدًا من القاهره إلى بلدتي في الصعيد بعد انتهاء الدراسه مباشرة. ركبت الميكروباس وأنا أشعر بسعادة فائقه، فقد انتهت أخيرًا أيام المعاناة، وها أنا عائد إلى أسرتي لأقضي إجازة سعيدة بإذن الله.

جلس بجواري رجل في مقتبل العمر، يحيط به أولاده الأربعة الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثالثة والثامنة، وكان الرجل لا يتوقف عن قذفهم بأقذر الشتائم بسبب وبغير سبب، حتى تعجبت لأمره. ثم أفسحت مكانًا للصغير بجواري، وإن كان هذا لم يُجدِ نفعًا مع الرجل. لم نكن قد قطعنا ثلث المسافة عندما توقف السائق فجأة بسبب حدوث عطل بالسيارة.

طلب منا السائق أن نغادر السيارة حيث أن العطل الحادث سوف يستغرق وقتًا طويلاً لإصلاحه، فدفع الجميع ثلث الأجره، ما عدا أنا.. فلقد ضاعت محفظتي.. هتفت بأعلى صوتي: محفظتي.. أين محفظتي؟.. لقد سُرقت.. أحدكم سرقها.

تتسائل الجميع بدهشه: كيف؟ ابحث جيدًا فى جيوبك، أو ربما تكون قد سقطت منك إلى الأرض.

التفتُ إلى الرجل الذي كان يجلس إلى جواري، فوجدته يهرول نحو باب السياره جاذبًا أولاده وهو يكيل لهم الشتائم المقززه، بينما كان الراكبون يسرعون خلفه ليلحقوا بقطار الركاب الذى تصادف وقوفه على محطة القريه فى ذلك الوقت. في لحظات قليله كان كل شيء قد انتهى، اذ استقل الجميع القطار ولم يتبقَ غيري في المشهد، وأنا أقف حائرًا أمام السائق الذى تغاضى عن أجرته وانشغل بإصلاح سيارته.

كان الرجل قد توقف بجوار قريه صغيره، ولم تكن المشكله تتمثل فقط في كيفية وصولي إلى بلدتي، بل ما زاد الأمر تعقيدًا هو أن أحد الإخوة الأحباء كان قد سلمني مبلغًا كبيرًا من المال لأُسلّمه بدوري لعائلته بالصعيد. شعرت بالدوار يلفّني، فجلست على حجر بجانب الطريق، وصرخت إلى الرب أن ينقذني من هذا الموقف العصيب، خاصة وأن والدي لا يمكنه بأي حال أن يدبِّر أمر المبلغ الكبير الذي ضاع مني. ظللت عدة دقائق أصلّي بلجاجة إلى الرب حتى يتدخل بسرعة، ولكن الشك المرير كان يهاجمني بضراوة؛ إذ أنه حتى وإن دبّر الرب أمر عودتي، لكن المحفظة.. كيف تعود؟ غير أن الرب شجّعني كثيرًا، فعُدت أصلي بإيمان، وصوت الرب يهمس في أذني: هل يستحيل على الرب أمر؟ حتى أنني شعرت بهدوء عجيب يملأ كياني، فأخذت أشكر الرب على رعايته وعنايته بي.

بينما أنا على حالي هذه أحسست بيد تربت على كتفي، فرفعت رأسي بسرعة لأجد شابًا رقيقًا يقف بجواري، ويسألني بلطف شديد عمّا بي. وقفت فى الحال وأخبرته بقصتي وبحيرتي فى هذا الموقف العصيب، فرَقَّ قلبه لحالي وأصرّ على اصطحابي إلى منزله المتواضع لأستريح قليلاً، وليعمل هو بعض المحاولات لتدبير أمر عودتي إلى بلدتي. شكرته كثيرًا على لطفه وكرمه، غير أنني كنت أشعر في قرارة نفسي أن الرب سيعيد إليَّ محفظتي وإن كنت لا أعرف كيف.

في بيت هذا الشاب المسيحي وجدت ترحيبًا غير المعتاد.. التفّ حولي إخوته يهوِّنون عليَّ الأمر، وأكدوا لي أن المبلغ المطلوب لعودتى سيدبّرونه كاملاً وأنه لا داعي للقلق إطلاقًا. فشكرتهم كثيرًا، ولكنني تشجّعت وأخبرتهم أنني صلّيت إلى الرب ليعيد إليَّ المحفظة، وأني أثق أنه سيستجيب طلبتي. ثم بدأت أتحدث معهم عن الرب وعن محبته وعن عمل الفداء العجيب. وقد جعلني إصغاؤهم الشديد أنسى أمر المحفظة لفترة من الوقت..

ببينما نحن هكذا سمعنا جلبة وضوضاء، وصوت طفل صغير يبكي بأعلى صوته. خرج الشاب س.و - الذي استضافني في بيته - إلى الشارع، ثم عاد بعد وقت قليل وهو يقول بانفعال: طفل صغير تائه يبحث عن أبيه، ولا أحد يعرفه في القرية.

خطر على ذهني خاطر غريب، فخرجت مسرعًا إلى الخارج أبحث عن الطفل. ويا للعجب.. لقد تحقق فعلاً ما خطر على ذهني؛ لقد كان الطفل التائه هو الابن الأصغر للرجل الذي كان يجلس إلى جواري في الميكروباس. لم يكن يتعدى الثالثة من عمره. وقد ظن الطفل أنهم بنزولهم من السياره قد وصلوا إلى غايتهم، ولم يرَ أباه عندما أسرع بإخوته إلى القطار، فأخذ يبحث في شوارع القريه عن أبيه، ولما لم يجده أخذ في الصراخ والعويل بأعلى صوته.

كنت قد شرحت قصتي لهذه العائله الودودة، وأشرت إلى الرجل الذي كان يجلس إلى جواري، وإلى يقيني بأنه سارق محفظتي؛ فلما عرفوا أنه ابن ذلك الرجل تعجبوا بشدة من المصادفة العجيبة، ولكنهم أخذوا في تهدئة الطفل.

أحسست بيد الله في هذا الموقف، وشعرت برغبة شديدة أن أصلي، فطلبت من أفراد هذه العائلة الكريمة أن يسمحوا لي أن أصلى إلى الله لأحدّثه قليلاً عن المشكلة التى نحن بصددها. كان جميع أفراد العائلة منفعلين إلى حد بعيد وهم يرون تدخل الله في مشكلتي إلى هذا الحد. بينما كنت أصلي تجمهر عدد كبير من الشباب عند مدخل البيت حبًّا في الاستطلاع.

وفجأة، وكنت قد انتهيت للتوِّ من الصلاة، علا صوت الشغب مرة أخرى.  ماذا في الأمر يا تُرى؟!

ووالد الطفل الصغير عاد إلى القريه يبحث عن ابنه، فدلّه الجميع على بيت الشاب س.و. ما أن دخل الرجل البيت، حتى أسرع والد س.و وأخذ الطفل إلى الداخل وسط صراخه وولولته، بينما التف الجميع حول الرجل يطلبون منه أن يعيد المحفظة إليَّ قبل أن يستلم ابنه.

نظر الرجل إليَّ بتعجب شديد، واتسعت عيناه في دهشة شديدة، ولم يرفع عينيه الذاهلتين عني وهو يعيد إليَّ المحفظة بما فيها من نقود، كاملة غير منقوصة. ثم أخذ ولده ومضى مذهولاً وسط هتافات الجميع وعباراتهم التى تؤكد عدل الله ونهاية الظالمين والأشرار.

عزيزى.. بقي أن تعرف أن علاقتي بهذه الأسره لم تتوقف عند هذا الحد، بل حتى هذه اللحظه نحن على اتصال دائم؛ وأثق - شكرا لله - أن بعضهم قبلوا الرب مخلِّصًا لهم، وأنا أصلّي من أجل باقي أفراد الأسرة.

وكم أشكر الله من أجل هذه الحادثة التي شجّعت إيماني كثيرًا، وكم أتمنّى أن تشجِّعك أنت أيضًا قارئي العزيز.

فيبي فارس
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf