تناولنا في المقالات السابقة أن السعادة مرتبطة بـ٤ هرمونات (أو نواقل عصبية) موجودة داخل مخ الإنسان، ورأينا سابقًا أول نوع وهو الدوبامين Dopamine ، وكذلك ثاني نوع وهو الأوكسيتوسين، واليوم ميعادنا مع النوع الثالث وهو السيروتونين.
كما ذكرنا من قبل، فكل هرمون (ناقل عصبي) من هرمونات السعادة، مرتبط بأمر يحفزه، فالدوبامين ينشط عند المكافأة سواء المعنوية أو المادية، والأوكسيتوسين ينشط بالعلاقات الحقيقية والمشاعر المرتبطة بها، وهنا أيضًا السيروتونين ينشط عند تحقيق الإنسان لذاته.
وتحقيق الذات مفهوم نفسي شهير، يشير إلى عملية إدراك الفرد لإمكاناته وقدراته، وهو في طريقه لتحقيق أهدافه وطموحاته الشخصية، أو بمعنى مختصر «عندي إيه؟ وهاعمل بيه إيه؟»، وكلا الجزئين فيه متعة خاصة؛ تمامًا مثلما يكتشف الطفل قدرته على المشي، أو تنتهي فتاة من قصة شعر مميزة لها، أو عندما ينجز شاب اختبار قيادة السيارة.
الاحتياج:
والحقيقة أن تحقيق الذات أكثر من مجرد متعة، لأنه موضوع على قمة هرم ماسلو للاحتياجات، الذي وضع الاحتياجات الجسدية في أسفله (الأكل والشرب والنوم والنظافة)، ثم الاحتياجات النفسية (الأمان والحب والقبول)، ثم الاحتياجات الاجتماعية (الصداقة وغيرها)، ثم الاحتياج للاحترام والتقدير، وفوق الكل الاحتياج لتحقيق الذات.
وهذا الأمر يصادق عليه الكتاب المقدس، الذي يعلن لنا أن الإنسان ليس مجرد جسد يأكل ويشرب وينام ويتكاثر، ولا نفس تفرح وتغضب وتحزن، ولكنه أيضًا روح يشتاق لله خالق المخلوق على صورته الإبداعية، ولا يصح للبشر أبدًا أن يكونوا مثل البهائم التي تباد (مزمور٤٩: ١٢).
والعكس صحيح، إذا سدد الإنسان كل احتياجاته، ولم يجد ما يحقق فيه ذاته، سيشعر بعدم الرضا وفقدان المعنى والقيمة، ويصيبه بالاكتئاب بكل درجاته، وقد يذهب به الأمر للانتحار وإنهاء حياته البائسة، ولهذا فالأدوية المضادة للاكتئاب اسمها العلمي (Selective serotonin reuptake inhibitors)
SSRIs، لأنها تحاول تعويض نسبة السيروتونين وتخفيف أعراض الاكتئاب بعض الشيء.
التحفيز:
ولأن تحقيق الذات احتياج إنساني، فنجده مدخل مستهدف مما يسمى بالتنمية البشرية، التي تهدف إلى تحسين القدرات والمهارات لدى الفرد ومساعدته لتحقيق ذاته، وكذلك تقوم الكثير من الحملات الإعلانية على مخاطبة هذا الاحتياج، لدرجة أن بنك شهير أنتج الكثير من الأغنيات التحفيزية للذات مثل: أنت تقدر وأنا الممكن وجوايا نور، وهي أغاني لاقت ترحيبًا كبيرًا، لأنها خاطبت هذا الاحتياج الإنساني الواضح لتحقيق الذات، حتى لو كانت السلعة نفسها أن يذهب الشاب للبنك، ويُقيِّد نفسه بقرض مالي مجحف الشروط ليبدأ مشروعه الخاص الذي سيحقق به ذاته!!
الهدف:
وبينما يتفق الكتاب المقدس مع الإعلانات والنظريات على أهمية تحقيق الذات، لكنه يختلف في عنصريه الأساسيين؛ الهدف والسبيل. وهذا ما يظهر في كلام كثير وعجيب من المسيح شخصيًا عن تحقيق الذات؛ سأنتقي منه موقف واحد.
ففي أحد المرات صارح المسيح تلاميذه الأحباء بخطة آلامه القادمة، فنقرأ «مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا! (متى١٦: ٢١، ٢٢).
وهنا يظهر التصادم بين رؤيتين لتحقيق الذات؛ الأولى هي رؤية المسيح الذي يعرف من هو؟ ولماذا أتى؟ والذي وجَّه عينه نحو الصليب، وقَبِلَ أن يكون الألم والقتل هو طريقه لتحقيق هذا الهدف.
أما رؤية بطرس فهي رؤية الناس الطبيعية، الذي كان يُمنِّي نفسه بتحقيق ذاته من خلال المناصب أو المكاسب، خاصةً أن المسيح أشاد به قبلها مباشرةً، عندما شهد بطرس أن المسيح هو ابن الله الحي (متى١٦: ١٦).
ولأن المسيح يعرف أن هذه لم تكن فقط رؤية بطرس، لكنها رؤية الشيطان مستخدمًا لسان بطرس، وهو يحاول إغراء المسيح وإلهائه عن تحقيق هدفه بالذهاب على الصليب، لذا رد المسيح بهذا «فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ (متى١٦: ٢٣).
السبيل:
ولكي تكتمل منظومة تحقيق الذات بشكلها السامي، أكمل المسيح كلامه في ذات الموقف لبطرس ولنا جميعًا «حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ (متى١٦: ٢٤، ٢٥).
فالسبيل لتحقيق الذات بشكل صحيح، أن ننكر ذواتنا، ونحكم عليها بالموت، فلا نطيع رغباتها المُدللة، ولا نسلك في طرق العالم الطبيعية لتحقيقها، لأن الأمر أكبر من هذا بكثير، فعلينا أن نستودع نفوسنا لمن خلقها، ويعرف جيدًا إمكانياتها.
وهنا أوجه سؤال لنفسي ولقارئي العزيز: هل نسعى وراء أهدافنا نحن أم أهداف المسيح فينا؟ قد تكون أهدافنا جيدة مثل النجاح أو الخدمة أو السعادة، ولكن ماذا عن أهداف الله في حياتنا؟
لعلنا ننظر من جديد لهذه الآية «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا (أفسس٢: ١٠)، وفي هذه الآية نوعين من الأهداف؛ نحن أنفسنا هدف لله، يصنع منا تحفته الفنية النادرة الرئيسية، والنوع الثاني أهداف وأعمال صالحة سبق الله فأعدها لكي ننفذها، وحينها سيزداد السيروتونين بطريقته الطبيعية، وسنشعر ليس فقط بتحقيق ذاتنا نحن لكن تحقيق ذاته هو فينا.