قضيت وقتًا في قراءة كتاب عن قوة كلمة الله، ومدى صدقها، وكنت مستمتعًا بالقراءة إلى حد كبير. حتى وصلت إلى فصلٍ يتكلم عن "المسيح والمكتوب" واستشهد الكاتب بما قاله المسيح في متى ٥: ١٧، ١٨، ثم بدأ يشرح كلمات المسيح بشيء من التفصيل. ومن شدة تأثري بما اقرأ وجدتني أترك الكتاب وأقضي وقتًا في الصلاة؛ طالبًا من الرب أن يملؤني حبًا، وتقديرًا لكلمته، وطاعة، وخضوعًا لوصاياه. ثم وجدت نفسي أكتب لك – عزيزي الشاب – بعض الأفكار التي ذكرها الكاتب في شرحه الرائع لهذا الجزء.
قال المسيح: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ».
المسيح يقصد بعبارة "الناموس والأنبياء" كل أسفار العهد القديم، وهو يعلن هنا بكل وضوح أنه لم يأتِ لينقض الناموس، بل ليكمَّله، والفعل المترجم "ينقض" هو الكلمة اليونانية "كاتالو" وقد استخدمها البشير متى ٣ مرات في إنجيله «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!». (متى ٢٤: ٢). وَقَالاَ: «هذَا قَالَ: إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ» (متى ٢٦: ٦١)، وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!». (متى ٢٧: ٣٩، ٤٠).
ومن معاني كلمة "ينقض" في اليونانية (يُدمر – يُفكك – يُبطل – يقلل) فقد كان المسيح يؤكد لسامعيه أنه لم يأتِ ليُدمر أو يُفكك أو يُبطل قوة الكلمة، ولم يأتِ ليقلِّل من شأنها أو يُخفِّف من قوتها وتأثيرها.
المُدهش هو ما قاله المسيح بعد ذلك، فبعدما نفى كونه أتى لينقض الناموس، أعلن لهم أنه جاء ليُكمَّل؛ وكلمة "يُكمَّل" في اليونانية (بليرو) ومن ضمن معانيها: (التنفيذ الحرفي – القيام بما هو مطلوب – التكميل والإتمام). الكلمة لا تعني فقط أن المسيح جاء ليتمم تعاليم الكتاب بما يقوله ويفعله، في شخصه وكيفية موته. إنما تعني أن الرب يتقدم بالمكتوب نحو الكمال، والاكتمال. إلى ذروته وهدفه المنشود والنهائي. وكما قال (دوجلاس مو): "تستخدم الكلمة للدلالة على العلاقة الواسعة التي تدور في إطار تاريخ الفداء بين الإعلان التحضيري غير المكتمل للشعب ومن خلالها، والإعلان النهائي والتحقيقي عن الله في المسيح في العهد الجديد". أراد المسيح أن يؤكد لمن يسمعه أنه أتى ليُظهر المغزى الذي يدور حوله الكتاب كله، ليفعل ما أعلنه العهد القديم، ليتمم بحياته نبوات العهد القديم، ليضع النقاط على الحروف والألوان على ما كان مرسومًا بالأبيض والأسود، ليُظهر لهم جوهر ما كانوا يرونه فيما مضى ظلًا فقط، وكأنه يطلب منهم أن ينظروا للناموس في نوره ومن خلال تعاليمه وحياته ليفهموا ما كان خافيًا عليهم.
ثم أعلن المسيح لهم: «إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ» وهنا توقف الكاتب قليلًا أمام كلمتي حرف، ونقطة اللتين ذكرهما المسيح هنا وأخذ يشرح قائلًا:
كلمة "حرف" في اليونانية هي "إيوتا" لكن المسيح يشير هنا إلى الحرف العبري (يود) والذي له شكل صغير جدًا، وهو أصغر كل الحروف العبرية فهو يبدو كفاصلة علوية. ربما لا ينتبه لها الكثيرون. أراد المسيح أن يؤكد اهتمامه بهذا الحرف الصغير وكيف أن حرفًا متناهي الصغر له أهمية عظمى ولا يمكن زواله من المكتوب مهما حدث.
أما كلمة "نقطة" التي نطق بها الرب هنا فهي تشير إلى النتوءات الصغيرة (القرون) التي تميز بعض الحروف العبرية (مثل النتوء العلوي لحرف ال h الذي يميزه عن حرف ال n في الإنجليزية) فالمسيح يعلن تمسكه بالنتوءات والشويكات الصغيرة في كل كلمة ونقطة من الكلمة المقدسة. فهل من لغة أو تعبير أقوى من هذا للتأكيد على التمسك بكل حرف ونقطة في المكتوب؟
القاريء العزيز؛ أمام تقدير المسيح للمكتوب، وأمام تمسكه بكل نقطة وحرف وكلمة. ماذا علينا أن نفعل؟ هل نُقدَّر الكلمة ونراها كما يراها المسيح؟ هل نتمسك بكل كلمة فيها؟ هل نجلس أمامها، ونلهج بها، ونحفظها في قلوبنا؟ هل نطيع وصاياه ونعيش بالمكتوب وكما يحق لإنجيل المسيح؟ (فيلبي ١: ٢٧).