كان في قديم الزمان رجل صالح، في جيله كثرت الشرور والفجور، انتشر السحر والاتصال بعالم الغيب، الظلم والفساد سادا على كل الأرض، حتى أصبح من الصعب العثور على شخص واحد يطلب الله في كل المسكونة! ولكن الله بدأ يتكلم برسائل خاصة لرجل اسمه “أخنوخ” وأخبره أنه سيرسل دينونة على هؤلاء الأشرار قريبًا (يهوذا١٤، ١٥). وعندما كان عمره ٣٦٥ سنة أعطاه الله ابنًا فدعاه “متوشالح”، وهو اسم مركَّب، معناه - بحسب أدق القواميس - “مات وأرسل أو مات فأرسل”. لقد أخبر الله أخنوخ أنه عندما يموت ابنه “متوشالح” سيرسل الله غضبه على الأشرار. انتظر الناس أن تتحقق نبوة أخنوخ بموت ابنه وإرسال الغضب على العالم، ولكن عندما أكمل متوشالح ١٨٧ تزوج ورزقه الله بابنه لامك الذي تزوج بعمر ١٨٢ سنة ورزقه الله بـ “نوح” فعندما ولد نوح كان عمر الجد “متوشالح” ٣٦٩. ولما كان نوح ابن ٦٠٠ سنة صار الطوفان على الأرض (تكوين٧: ٦)، كان وقتها متوشالح قد أكمل ٩٦٩ سنة. مات متوشالح، فأرسل الله الطوفان على الأرض. عزيزي هذا أول ذِكر لأناة الله في الكتاب (١بطرس٣: ٢٠). يا لها من حقيقة مرهبة لقد انتظر الله على الأشرار قبل أن يدينهم ٩٦٩ سنة أي قرابة الألف سنة. ويا لقساوة قلب الإنسان؛ فرغم طول أناة الله إلا أنه للأسف لم يتُب أحد ولم ينجُ أحد سوى نوح وبيته، وباقي ذلك الجيل جميعهم الآن في سجن الهاوية انتظارًا ليوم الدينونة العظيم!
يصف الكتاب المقدس الله بأنه «طويل الروح» ٥ مرات (العدد١٤: ١٨؛ نحميا٩: ١٧؛ المزامير ٨٦: ١٥؛ ١٠٣: ٨، ١٤٥: ٨)، ويصفه كذلك بأنه «بطيء الغضب» ٤ مرات (الخروج ٣٤: ٦؛ يوئيل ٢: ١٣؛ يونان ٤: ٢؛ ناحوم ١: ٣).
هذه الصفات عن الله ذُكرت بوضوح في العهد القديم ولم تذكر في العهد الجديد ولا مرة، ولكن مصطلح «أناة الله» ذكر ٦ مرات (بالارتباط بالله)، مرة في العهد القديم و٥ مرات في العهد الجديد (إرميا ١٥: ١٥؛ رومية٢: ٤، ٩: ٢٢؛ ١تيموثاوس ١: ١٦؛ ١بطرس٣: ٢٠؛ ٢بطرس ٣: ١٥).
ومن هنا يمكن أن نرى المفاهيم المترابطة معًا لتوضيح مفهوم «أناة الله»:
الله طويل الروح: يصوِّر نحميا في سفره (٩: ١٨) أن الشعب طوال الأربعين سنة في البرية تمرَّد على الله و“أهانوا الله” “إهانة عظيمة” وبحسب KJV تترجم “great provocations” أي “استفزازات عظيمة” أو “إغاظة لله”! ولكن الله في تعاملاته معهم كان صبورًا، غفورًا، رحيمًا، وكثير الإحسان للشعب الذي خانه وأهانه. يا للعجب يا صديقي: كم مرة شهدت حياتنا في الماضي عن خيانتنا لله في مواقف كثيرة، وتشهد عن “طول روحه” وصبره علينا، لأنه إله كل نعمة، ووحده يستحق التسبيح والحمد لأنه صالح في كل طرقه وأعماله!
الله بطيء الغضب: اتفق يونان وناحوم على وصف الله في تعاملاته مع شعب “نينوى” بأنه “بطيء الغضب” Slow to anger. لقد وصف الوحي في سفر يونان نينوي بـ“المدينة العظيمة” ٤ مرات، كان بها أكثر من ١٢٠ ألف نسمة ولكن كانت حياتهم في التوهان والضياع، ولم يعرفوا يمينهم من شمالهم، لقد عاشوا بالاستقلال عن الله فأرسل الله لهم يونان مناديًا: «بَعْدَ ًارْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى» بمجرد سماعهم كرازة يونان «آمَنَ ًاهْلُ نِينَوَى بِاللهِ وَنَادَوْا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ» (يونان٣: ٤، ٥)، “فلما رأى الله أعمالهم وتوبتهم عن طرقهم الآثمة، عدل عن العقاب الذي كان مزمعًا أن يوقعه بهم وعفا عنهم” (ترجمة كتاب الحياة). يا له من إله عجيب دائمًا يبحث عن الخاطئ لا ليهلكه، ولكن يصبر عليه لكي يتوب ويرجع عن خطاياه، وعندها يعتبر الله خطايا الماضي تمت بجهل ويتغاضى عنها! (أعمال١٧: ٣٠).
الله طويل الأناة: الحقيقة أن مصطلح “طول الأناة” Long-suffering (وهو بالعبرية ايرك – اف) بمعني “أنف طويل” أو إشارة لطول النفس؛ لأن الغضب يظهر في أنفاس عنيفة سريعة تخرج من الأنف، ومن هنا جاء التعبير “طويل الأناة” لوصف صبر الله في التعامل مع شعبه، بل وحتى مع أعدائه، فإرميا يصلي لله أن ينتقم له من أعدائه ومعيريه ويطالب الله ألا يتعامل معهم “بطول أناته” (إرميا١٥: ١٥)!
وفي اليونانية “طول الأناة” (ماكروثوميا)، الكلمة اليونانية تعنى حرفيًا “طول البال” بالمقابلة مع ضيق النفس وسرعة الغضب ونفاد الصبر وعدم القدرة على الاحتمال وقت أطول! ومن هنا نرى عزيزي القارئ كيف أن الله “طويل البال” وحليم جدًا في التعامل معنا، «لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا» (مزمور١٠٣: ١٠).
الله يتمهل علينا: مصطلح “إمهال الله” لم يرد في كل العهد الجديد سوى مرتين في رسالة رومية (رومية٢: ٤؛ ٣: ٢٥)، ليصف بولس صبر الله الطويل على كل خاطئ لكي يستفيد من معاملات الله معه ليقتاده للتوبة قبل استعلان دينونة الله العادلة.
الله يتعامل معنا “بغني اللطف”: يحدثنا الكتاب ١٢ مرة عن “لطف الله” في تعاملاته معنا، وهي إحدى طرقه للتعامل مع قلوبنا القاسية لتتحول رجوعًا إليه من طرقنا الردية، ويتكلم العهد الجديد ليس عن لطف الله فقط، بل “غنى لطفه” riches of His kindness. فكِّر معي عزيزي القارئ كم مرة كنا نستحق الغضب جزاء ما اقترفته أيدينا من آثام ولكن الله بغنى لطفه وطول أناته تعامل معنا “بغنى اللطف” لكي يقتادنا إلى التوبة والإيمان بيسوع المسيح وتنفتح عيوننا على عمله الكفاري لأجلنا على الصليب فيطهرنا دمه من كل خطية (١يوحنا ١: ٧).
عزيزي، قريبًا ستنتهي “أناة الله” على الخاطئ وسينفد “صبر المسيح” (١تسالونيكي٣: ٥)، ويبدأ يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟ (رؤيا٦: ١٧). إنه الآن أعظم وقت تأتي تائبًا للمسيح معترفًا بخطاياك فتنال رحمته وتتمتع برأفته ومحبته. ليتك تفعل ذلك الآن قبل فوات الأوان!