2015 135

رجال ونساء .. تكريس وولاء

Bookmark and Share

قبل شهرين لم يكن أحد يسمع عن “كيم ديفيز”، فهي سيدة عاملة عادية مثل ملايين الأمريكيات، في التاسعة والأربعين من عمرها، لا يوجد بها ما يلفت النظر، متوسطة الجمال، ممتلئة القوام، شعرها الطويل تتركه مهملاً وراء ظهرها، ترتدي نظارة طبية، بسيطة الملابس، محتشمة المظهر. وهي تترأس مكتب استخراج تراخيص الزواج، بمقاطعة “روان” الريفية، التابعة لولاية “كنتاكي” الجنوبية.

بدأ اسم “كيم” يتردد في الإعلام الأمريكي بعد أن قدَّم اثنين من المواطنين شكوى تم تحويلها إلى المحاكمة على إثرها، حيث اُتُهِمَت بأنها تُعرقِل تنفيذ قرار المحكمة الأمريكية العليا بجواز زواج المثليين في جميع الولايات الأمريكية. وقد صرَّحت “كيم ديفيز” بأنها لن تستخرج ترخيص زواج للمثليين، ولن تسمح بذلك في المكتب الذي تترأسه، لأن ذلك مخالف لتعاليم الرب.

تمت محاكمتها أول مرة في المحكمة الفيدرالية الابتدائية ثم استأنفت الحكم حتى وصلت للمحكمة العليا، وكان الحكم النهائي يوم الخميس الماضي ٣ سبتمبر ٢٠١٥.

وأمام القاضي “ديفيد بونينج”، وقفت “كيم ديفيز”، لتواجه الاتهام قائلة بثقة وحزم: “لن أخون ضميري من أجل قانون واشنطن. ولن أنحني لغير الرب. أُفضِّل السجن على عصيان تعاليمه”.

قدَّم لها القاضى طوق نجاة؛ اقترح عليها أن تظل على اعتقادها وتعطي لنوابها تفويض إصدار التراخيص. ولكنها رفضت هذا الاقتراح أيضًا. وأمام إصرارها على رفض الإذعان لقانون البلاد، أيَّد القاضي حكم السجن لمدة عام.

ظلت “كيم” حتى قبل أربع سنوات، تعيش مثل غيرها من الأمريكيات، لها علاقات غرامية خارج الزواج، أنجبت منها أطفال، بالإضافة إلى زيجاتها الثلاثة الفاشلة، التي انتهت كلها بالطلاق. وهي - على حد قول معارضيها - ليست الشخصية المثالية المتدينة لكي تُنصِب مِن نفسها راعٍ للأخلاق وتعاليم المسيح، وأن تكون رسولاً للدفاع عن الزواج التقليدي.

وردت “كيم” على هذه الاتهامات قائلة: “أنا فعلاً غير مثالية، ولكنني وُلدت ولادة جديدة منذ ٤ سنوات، حين ذهبت إلى اجتماع في كنيسة، واستمعت إلى العظة، وتغلغلت كلمات الرب يسوع إلى قلبي، فآمنت به مُخلِّصًا وفاديًا شخصيًا لي، ولم يعد هناك من يحتل ويملأ قلبي غيره. ومنذ ذلك الحين تغيَّرت حياتي تمامًا، وأصبح هدفي الأول في الحياة طاعة الرب والالتزام بتعاليمه. لقد وعدت بأن أُحبّهُ من كل قلبي، ومن كل نفسي، ومن كل قدرتي، ومن كل فكري، لأنني أريد أن أجعل السماء موطني”.

وعندما ذكَّرها أحدهم بماضيها وزيجاتها الفاشلة، قالت: “أنا نفسي عانيت من هذا. وإني أتساءل: لماذا اختارني الله من بين كل الناس - بماضيَّ المعروف - للدفاع عن شيء فشلت فيه بشكل ذريع في العالم. ثم كان عليَّ أن أتذكر أنني أصبحتُ إنسانة جديدة عندما سلمت حياتي للمسيح؛ دمه طهرني من كل خطية، وغسَّلني إلى التمام. الإنسانة القديمة مضت، والجديدة تقفُ الآن أمامكم. نعم. أنا لستُ الشخص المُتوَّقع وقوفه للدفاع عن كلمة الله وحقه. لكن هي النعمة الغنية المتفاضلة”.

وقد علَّق محامي “كيم” على الحكم بسجنها قائلا: “قد تُسجن خلف القضبان، ولكن ضميرها لا يزال حُرًّا طليقًا”. وأضاف: “إنها تُحبّ الله، ولا تستطيع أن تعصي ضميرها. فهل هذا جُرمٌ؟! كما أن الدستور الأمريكي يسمح بحرية الدين والاعتقاد”.

تفكّرت في القصة، وهمست في باطني: “إن التاريخ يُعيد نفسه!”. أليس هذا ما حدث في بابل - أمريكا زمانها - أيام “نَبُوخَذْنَصَّرُ”؟! (دانيآل٣). فبدلا ًمن أن يُمارس “نَبُوخَذْنَصَّرُ” سلطته بالاعتماد على الله، فإنه وضع حقوق الله جانبًا، وسعى لتوطيد امبراطوريته بأساليب من ابتكاره. واستخدم سلطته العظيمة لكي يفرض قوانين من صنعه، تحت التهديد بعقوبة الإعدام للذين لا يرضخون لأوامره. وهكذا أمام تمثاله الذهبي، وفي وقت مُعين، وبمصاحبة الموسيقى الصاخبة التي تثير الأحاسيس، كانت الأوامر أن يَخُر الجميع ويسجدوا لتمثال الذهب «وَمَنْ لاَ يَخِرُّ وَيَسْجُدُ فَإِنَّهُ يُلْقَى فِي وَسَطِ أَتُونِ نَارٍ مُتَّقِدَةٍ».

إن هذا التمثال وتدشينه وقانون السجود له، لم يتجاهل وينتهك فقط حقوق الله، بل إنه أيضًا سحق تحت قدميه ضمير الإنسان. وفي هذا، فإن “نَبُوخَذْنَصَّرُ” قد ذهب خارج دائرة سلطته القانونية، وتجاوز حدوده، وتطفل على مجال سلطان الله. ولكن هذا يُبرز رجال خائفين الله، والذين - مهما كان الثمن - سوف يُطيعون الله أكثر من الناس. فبينما كانوا مُستعدين أن يطيعوا الملك في منطقة نفوذه الخاصة، فإنهم يرفضون أن يطيعوه تمامًا إذا ما تعدى على حقوق الله.

لقد أدرك “حَنَنْيَا وَمِيشَائِيلَ وَعَزَرْيَا” أن المعركة أصبحت معركة الرب، والإيمان يُمكنهم أن لا يسجدوا لتمثال الذهب، وأن يبقوا في هدوء تام في حضرة الملك الحانق. والثقة في إلههم تُمكّنهم من أن يُجيبوا الملك: «يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ». فبالنسبة لهم كانت الأمور واضحة لا تقبل المساومة.

الإنسان الطبيعي يقول: “إنه فقط شيء صغير يطلبه الملك؛ عليك فقط أن تنحني مرة واحدة أمام هذا التمثال، وينتهي الأمر فورًا في لحظة، وعندئذ تصبح حرًا؛ ولست في حاجة أن تنحني له في قلبك. إنها أوامر رسمية إلى حد كبير، وببساطة إنها مسألة طاعة للملك”. لكن الإيمان لا يعقل الأمر هكذا؛ فالإيمان يُطيع الله، ويرى بوضوح أنها مسألة اختيار بين الله والملك. وهذا يحسم الأمر. والكلمات الافتتاحية لإجابتهم تُعلن السر وراء ثقتهم: «هُوَذَا يُوجَدُ إِلَهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ»! لقد عرفوا الله، وبذا أمكنهم أن يقولوا: «إِلَهُنَا». إن المعرفة الحقيقية لله، هي السر وراء القوة أمام البشر. ومهما كان المركز الذي يتقلدونه أمام البشر، فإنهم لا زالوا يخدمون الله.

لقد عصى الملك الله بقوله: «مَنْ هُوَ الإِلَهُ الَّذِي يُنْقِذُكُمْ مِنْ يَدَيَّ؟»، وبهدوء عظيم قَبِلَ هؤلاء الرجال المؤمنين التحدي، وبثق الإيمان أجابوا: «يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ... إِلَهُنَا... يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ». بل وأكثر من ذلك: «وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ».

إن المسألة ببساطة هي طاعة الله أو الإنسان. ولا يزال هذا هو السؤال الحقيقي بين المؤمنين المسيحيين وحكام العالم. إن طاعة السلطات القائمة هو توجيه كلمة الله الجليّ لشعبه (رومية١٣: ١؛ تيطس٣: ١؛ ١بطرس٢: ١٣-١٧). فليس من شأننا أن نُثير التساؤلات حول كيفية تكوين السلطة، أو طابع الشخص المُسيّطر على السلطة؛ دورنا أن نطيع. ولكن عندما تتعارض إرادة الإنسان مع كلمة الله، وتسعى لفرض هذه الإرادة على ضمائرنا، فينبغي أن يُطاع الله أكثر من الإنسان (أعمال٤: ١٩).

فايز فؤاد
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf