2020 164

يوشيا الملك ٢

Bookmark and Share

ترى ما الفرق الذي أحدثه العثور على سفر الشريعة؟

في الحقيقة إن كانت الإصلاحات التي قام بها يوشيا - قبل العثور على سفر الشريعة - كانت هائلة وشاملة، لم تتوقف على يهوذا فقط بل امتدت إلى إسرائيل أيضًا، إلا أنها كانت وكأنها إصلاحات خارجية. لكن التغيير الحقيقي - كما نعلم - دائمًا ما يأتي من الداخل. وهو ما حدث بعد قراءة سفر الشريعة، فلقد رقَّ قلب الملك وتواضع ومزّقَ ثيابه. ودخل بيت الرب مع جميع الشعب، «وَوَقَفَ الْمَلِكُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَطَعَ عَهْدًا أَمَامَ الرَّبِّ لِلذَّهَابِ وَرَاءَ الرَّبِّ، وَلِحِفْظِ وَصَايَاهُ وَشَهَادَاتِهِ وَفَرَائِضِهِ بِكُلِّ الْقَلْبِ وَكُلِّ النَّفْسِ، لإِقَامَةِ كَلاَمِ هذَا الْعَهْدِ الْمَكْتُوبِ فِي هذَا السِّفْرِ. وَوَقَفَ جَمِيعُ الشَّعْبِ عِنْدَ الْعَهْدِ» (٢ملوك٢٣: ٣).

فما استجد من تغيير بعد ذلك، وإن كان أقل حجمًا لكنه أكثر عمقًا وتحديدًا! فلقد تركزت الإصلاحات فيما بعد على بيت الرب الذي أخرج يوشيا منه السارية وجميع الآنية المصنوعة للبعل والسارية وحرقها. وكذا هدم بيوت المأبونين (الشواذ) التي عند بيت الرب! «وَكَذلِكَ السَّحَرَةُ وَالْعَرَّافُونَ وَالتَّرَافِيمُ وَالأَصْنَامُ وَجَمِيعُ الرَّجَاسَاتِ الَّتِي رُئِيَتْ فِي أَرْضِ يَهُوذَا وَفِي أُورُشَلِيمَ، أَبَادَهَا يُوشِيَّا لِيُقِيمَ كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ» (٢ملوك٢٣: ٢٤).

لكن أشد ما يلفت النظر في هذا الإصلاح الأخير هو إبادة الترافيم. والترافيم هي: التماثيل المنزلية domestic، وهي الكلمة التي تأتي عن كل ما هو منزلي وبيتي وصغير وأليف ومُطَوع. لكن لم تشفق عين يوشيا على هذه الأمور التي تبدو محببة وصغيرة ومألوفة وcute! بل «أَبَادَهَا يُوشِيَّا لِيُقِيمَ كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ».

لقد غَيَّر يوشيا شكل المملكة بتطهيرها تطهيرًا كاملاً وكذا بيت الرب وبيوت الشعب. ولكن الأهم من التغير الخارجي، كان التغير الداخلي الحادث في قلب الملك: «وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مَلِكٌ مِثْلُهُ قَدْ رَجَعَ إِلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ وَكُلِّ قُوَّتِهِ حَسَبَ كُلِّ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَبَعْدَهُ لَمْ يَقُمْ مِثْلُهُ» (٢ملوك٢٣: ٢٥).

لكن حاول الملك أيضًا قيادة كل الشعب (جميع الموجودين) إلى عبادة الرب. “وَأَوْقَفَ he made all take a stand” كُلَّ الْمَوْجُودِينَ فِي أُورُشَلِيمَ وَبَنْيَامِينَ». «فَعَمِلَ سُكَّانُ أُورُشَلِيمَ حَسَبَ عَهْدِ اللهِ إِلهِ آبَائِهِمْ. “وَجَعَلَ” جَمِيعَ الْمَوْجُودِينَ فِي أُورُشَلِيمَ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ إِلهَهُمْ. “كُلَّ أَيَّامِهِ” لَمْ يَحِيدُوا مِنْ وَرَاءِ الرَّبِّ إِلهِ آبَائِهِمْ» (٢أخبار٣٤: ٣٢، ٣٣).

ويبدو لنا وكأن الشعب قد عاد أخيرًا إلى الرب إلهه... لكن مهلاً لحظة...

لاحظ الكلمات الهامة: أَوْقَفَ، وَجَعَلَ، كُلَّ أَيَّامِهِ... لقد أتى التغيير في حياة الشعب تحت ضغط وإلحاح من ملكهم، فلم يسجِّل الرب عن الشعب، كما سجل عن الملك، أنهم رجعوا إلى الرب بكل قلوبهم وكل أنفسهم وكل قوتهم. وبكل أسف رغم توافر كل مظاهر النهضة في المملكة وفي البيوت وفي الشعب، إلا أن رجوعهم هذا لم يكن رجوعًا حقيقيًا إلى الرب، بل بالكذب! وهو ما يؤكده النبي إرميا الذي كان معاصرًا لفترة حياة الملك يوشيا. «وَقَالَ الرَّبُّ لِي فِي أَيَّامِ يُوشِيَّا الْمَلِكِ... وَفِي كُلِّ هذَا أَيْضًا لَمْ تَرْجعْ إِلَيَّ أُخْتُهَا الْخَائِنَةُ يَهُوذَا بِكُلِّ قَلْبِهَا، بَلْ بِالْكَذِبِ، يَقُولُ الرَّبُّ» (إرميا٣: ٦، ١٠).

فبالنظر إلى الفئات التي أدخلها الملك لبيت الرب لقطع العهد أمام الرب «وَجَمِيعُ رِجَالِ يَهُوذَا وَكُلُّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ، وَالْكَهَنَةُ وَالأَنْبِيَاءُ وَكُلُّ الشَّعْبِ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ»، والتي نرى فيهم صورة التقوى في سفري الملوك والأخبار، لكن يكشف لنا الله - الذي لا ينظر إلي العينين بل إلى القلب - عن وجهة نظره فيهم، فيقول عن رجال يهوذا وسكان أورشليم: «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: تُوجَدُ فِتْنَةٌ بَيْنَ رِجَالِ يَهُوذَا وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ. قَدْ رَجَعُوا إِلَى آثَامِ آبَائِهِمِ ٱلْأَوَّلِينَ ٱلَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامِي، وَقَدْ ذَهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدُوهَا. قَدْ نَقَضَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتُ يَهُوذَا عَهْدِي ٱلَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ» (إرميا١١: ٩، ١٠).

«فَٱلْآنَ كَلِّمْ رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ قَائِلاً: هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: هَأَنَذَا مُصْدِرٌ عَلَيْكُمْ شَرًّا، وَقَاصِدٌ عَلَيْكُمْ قَصْدًا. فَٱرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ ٱلرَّدِيءِ، وَأَصْلِحُوا طُرُقَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ. فَقَالُوا: بَاطِلٌ! لِأَنَّنَا نَسْعَى وَرَاءَ أَفْكَارِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ حَسَبَ عِنَادِ قَلْبِهِ ٱلرَّدِيءِ» (إرميا١٨: ١١، ١٢).

وكذا ينضم إليهم الكهنة والأنبياء:

«مِنْ أَجْلِ كُلِّ شَرِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا ٱلَّذِي عَمِلُوهُ لِيُغِيظُونِي بِهِ، هُمْ وَمُلُوكُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَكَهَنَتُهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ وَرِجَالُ يَهُوذَا وَسُكَّانُ أُورُشَلِيمَ. وَقَدْ حَوَّلُوا لِي ٱلْقَفَا لَا ٱلْوَجْهَ. وَقَدْ عَلَّمْتُهُمْ مُبَكِّرًا وَمُعَلِّمًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لِيَقْبَلُوا أَدَبًا» (إرميا٣٢: ٣٢، ٣٣).

وكل الشعب من الصغير إلى الكبير مع الأنبياء والكهنة أيضًا.

«لِأَنَّهُمْ مِنَ ٱلصَّغِيرِ إِلَى ٱلْكَبِيرِ، كُلُّ وَاحِدٍ مُولَعٌ بِٱلرِّبْحِ. مِنَ ٱلنَّبِيِّ إِلَى ٱلْكَاهِنِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ بِٱلْكَذِبِ. وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ، قَائِلِينَ: سَلَامٌ، سَلَامٌ. وَلَا سَلَامَ. هَلْ خَزُوا لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا رِجْسًا؟ بَلْ لَمْ يَخْزَوْا خِزْيًا، وَلَمْ يَعْرِفُوا ٱلْخَجَلَ! لِذَلِكَ يَسْقُطُونَ بَيْنَ ٱلسَّاقِطِينَ. فِي وَقْتِ مُعَاقَبَتِهِمْ يَعْثُرُونَ، قَالَ ٱلرَّبُّ» (إرميا٨: ١٠-١٢).

لقد تفشي المكر والرياء والكذب والقلب المنقسم كضربة زائغة في جميع فئات الشعب بالرغم من كل مظاهر التقوى والنهضة، فمن الواضح أنهم كانوا يعبدون الرب إرضاءً لملكهم!

ويذكرَّنا موقفهم هذا بموقف آباءهم في عبادتهم للرب طالما كان يشوع والشيوخ أمامهم. «وَعَبَدَ إِسْرَائِيلُ الرَّبَّ كُلَّ أَيَّامِ يَشُوعَ، وَكُلَّ أَيَّامِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ طَالَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَ يَشُوعَ وَالَّذِينَ عَرَفُوا كُلَّ عَمَلِ الرَّبِّ الَّذِي عَمِلَهُ لإِسْرَائِيلَ» (يشوع٢٤: ٣١). وماذا بعد أن اختفوا من أمام أعينهم؟ «كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (قضاة١٧: ٦).

وكذا يوآش الملك. «وَعَمِلَ يُوآشُ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنِ». وماذا بعد موت يهوياداع؟ «جَاءَ رُؤَسَاءُ يَهُوذَا وَسَجَدُوا لِلْمَلِكِ. حِينَئِذٍ سَمِعَ الْمَلِكُ لَهُمْ. وَتَرَكُوا بَيْتَ الرَّبِّ إِلهِ آبَائِهِمْ وَعَبَدُوا السَّوَارِيَ وَالأَصْنَامَ، فَكَانَ غَضَبٌ عَلَى يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ لأَجْلِ إِثْمِهِمْ هذَا». وحتى عندما أراد زكريا بن يهوياداع توبيخهم، قتلوه بأمر الملك! «وَلَمْ يَذْكُرْ يُوآشُ الْمَلِكُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي عَمِلَهُ يَهُويَادَاعُ أَبُوهُ مَعَهُ، بَلْ قَتَلَ ابْنَهُ» (٢أخبار٢٤: ٢-٢٢).

ترى هل نتبع الرب أم نتبع مَن يتبعون الرب؟! وفي تبعيتنا للرب، أنتبعه ونحبه من كل قلوبنا ومن كل أنفسنا ومن كل قوتنا؟!

مريم وهيب
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf