2008 90

الخادم والتمييز الروحي

Bookmark and Share

«ذوقًا صالحًا ومعرفةً علِّمني»
(مزمور119: 66)

إن مدرسة الله لا بد أن تُعلِّم وتُهذِّب كل أولاد الله، ولا سيما الذين هم في ميدان الخدمة. والذوق الصالح هو التمييز والفهم الذي يجعل الشخص يحكم الحُكم الصحيح في الأمور، ويتصرَّف حسنًا في المواقف المختلفة. وهذه الحاسة يُنشئها الروح القدس في الشخص المولود من الله، ثم تتدرَّب مع الزمن وتنمو كباقي الحواس الروحية، بحيث يستطيع المؤمن أن يفهم طبيعة ونوعية الأشخاص الذين يتعامل معهم من حيث تكوينهم النفسي، وخلفياتهم، وظروفهم، واحتياجاتهم سواء الروحية أو النفسية أو الاجتماعية أو المادية. ويُميِّز الاختلافات بين هؤلاء. فهذا سيفرض أسلوبًا خاصًا في التعامل يختلف من الواحد للآخر، ويختلف مع الشخص نفسه من ظرف لآخر، ومن مرحلة إلى أخرى.

إنه يعرف كيف يتعامل مع الآباء والأمهات بكل أدب واحترام، وكيف يتعامل مع الشيوخ بكل وقار وخضوع، وكيف يتعامل مع الشبان والشابات بكل تعقل ونقاء وطهارة وعفة بما يتناسب مع قداسة الله. وكيف يتعامل مع الأصغر سنًا بكل عطف ورفق. كيف يتعامل مع الأغنياء والفقراء دون تفضيل أو ازدراء. ومع الأقوياء والضعفاء، من حيث الضمير، حتى لا يُعثر أحدًا. ومع الأذكياء والمتفوقين، أو البُلداء والفاشلين، عالـمًا أن المسيح قد مات لأجل الجميع، وأن الله قد اختار جُهال العالم والمزدرى وغير الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه (1كورنثوس1: 27-29). وهذا كله يتطلـَّب الذوق الصالح والتمييز في الشخص الذي يخدم.

كذلك يجب عليه أن يحفظ نفسه غير ثقيل على أحد، وليفرض نفسه على الآخرين، بل يكون عفيف النفس، لا يطمع في أحد، ولا يشتهي ما يخصّ الآخرين. لا يطلب شيئًا لنفسه، ويقنع بأقل القليل، ويشعر بالامتنان والمديونية لكل مَن يُقدِّم له خدمة خاصة أو عناية خاصة. إنه يعيش بمبدإ «مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأخذ» (أعمال20: 35)، مُتمثِّلاً بالسيد الذي جاء لا لكي يُخْدَم بل لكي يَخْدِم، ويبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس10: 45).

إنه يحترم حقوق الآخرين، وخصوصياتهم، ويكون أمينًا على أسرارهم، ليظل جديرًا بثقتهم. ويحافظ على مشاعرهم لكي ليجرح أحدًا بكلمة أو تصرف، حتى يكون مقبولاً من الجميع.

لا ينبغي أن يصعد على أكتاف الآخرين، ولا يزاحم على الخدمات الظاهرة، ولا يحاول أن يسود على الأنصبة، أو يُشعر الآخرين بأنه الأفضل، وأنه الوحيد الذي يفهم، والوحيد الذي يعمل، وبدونه سينهار العمل، فيحتقر ما يعمله إخوته، ويحكم بالفشل على كل الإنجازات طالما تَمَّت بدونه. ما أردأ هذه الروح، وما أبعدها عن الذوق الصالح!

إن الذوق الصالح يجعل صاحبه لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي، ويحسب الآخرين أفضل من نفسه، ويشعر أنه واحد من كثيرين في ميدان الخدمة. هكذا كان بولس يقرن نفسه بآخرين، حتى لو كانوا أقل منه في الخبرة والموهبة مثل تيموثاوس وسلوانس. وكان يُسرُّ بما يعمله الآخرون مثل أبلوس. وقد علَّم المؤمنين في فيلبي هذا الدرس قائلاً: «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (فيلبي2: 4). أي أنه يُقدِّر ويمتدح ما يفعله الآخرون. وهذا هو الذوق المسيحي المطلوب في كل خادم حقيقي للرب.

كذلك يجب أن يكون مُسرعًا في الاستماع، مُبطئًا في التكلُّم (يعقوب1: 19)، مُعطيًا الفرصة للآخرين ليُعبِّروا عن أفكارهم، ولا ينبغي أن يحتقر آراءهم أو يصدَّهم لئلا يُعثرهم. وعندما يخدم لا ينبغي أن يكون هو المتكلِّم في كل مرة، وإذا تكلَّم يكون مختصرًا وهادفًا ومُحدَّدًا لكي لا يملّ منه السامعون. ويجب أن يُميِّز حالة الأشخاص الذين يخدمهم وطاقتهم. ويجب أن يعرف متى يتكلَّم ومتى يصمت. وعندما يتكلَّم ماذا يقول، وما الذي لينطق به ولا يخرج من شفتيه مهما كان. فالذوق الصالح يتضمن الأسلوب والألفاظ التي يستخدمها لكي يعطي نعمة للسامعين، وتكون فقط حسب الحاجة. ولا ينبغي أن يدَّعي المعرفة في كل الأمور، وليس عيبًا أن يستشير مَنْ هم أكثر خبرة ومعرفة.

كذلك وهو يتعامل مع أخطاء الآخرين وضعفاتهم يجب ألا يشهِّر بهم، ولا يكون كثير الانتقاد، بل بروح المحبة والوداعة يعالج الأمور ويسترها، وبكل تواضع يكون ناظرًا إلى نفسه لئلا يُجرَّب هو أيضًا. ويجب أن يُميِّز متى يكون العلاج على انفراد ومتى يكون أمام آخرين.

كذلك يظهر التمييز في اختيار الوقت المناسب من جهة ظروف الآخرين، لزيارة خاصة أو لقاء فردي أو جماعي، وأيضًا في اختيار الموضوع المناسب طبقًا لاحتياج النفوس التي يتعامل معها. فيقدِّم التشجيع عندما يراهم خائرين وحائرين ومضطهدين، ويُكلِّمهم عن النعمة عندما يراهم منكسرين وفاشلين ومُحبَطين وشاعرين بعدم الاستحقاق. ويكون من الحماقة أن يكلِّم هؤلاء عن المعاملات التأديبية والقضائية في هذا التوقيت. بينما يكون مناسبًا أن يتكلَّم عن القداسة والتأديب إذا رأى فيهم التهاون والشرور وكل ما يهين الرب، وأنهم لا يفهمون النعمة بالشكل الصحيح ويعتبرونها أنها التساهل مع الشَّر. وهذا ما ذكره يهوذا في رسالته قائلاً: «ارحموا البعض مُميِّزين، وخلِّصُوا البعض بالخوف، مختطفين من النار» (يهوذا 22، 23). وهكذا كان الرب يسوع يتكلَّم أحيانًا عن محبة الله وعطية الله وغفران الله ولم ينطق بكلمة عن الدينونة أو عن نتائج الخطية من حيث الزرع والحصاد، بينما في مواقف أخرى كان يُوبِّخ الفريسيين ويحذّرهم ويتكلَّم عن الدينونة والهلاك والجحيم الأبدي.

أخيرًا فإن التمييز يشمل معرفة الاحتياجات الروحية والمادية للنفوس، ومن عدم التمييز أن تسدَّد الأعواز الروحية بأمور مادية، أو الأعواز المادية برسالة روحية. وهذا ما كان يفعله رب المجد عندما كان يُعلِّم ويكرز ويشفي ويُطعم، ويُعزِّي النائحين، في تمام المناسبة بحسب احتياج النفوس التي حوله، فما أروعه مثال!

محب نصيف
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf