2014 130

البلاط والرخام

Bookmark and Share
في أحد الأيام، بدأ البلاط الذي يفرش أرض القصر يتحدَّث إلى قطعة الرخام التي تنتصب كتمثال في أحد أركان القصر، فقال: لماذا يدوس البشر فوقي وأنت تنتصب مزهوًا بجمالك، وكل إنسان ينظر بإعجاب إليك؟!

وتابع يسأل: كلانا من نفس الطينة، فلماذا يُعاملك الناس بطريقة أفضل مما أُعامَل؟! أليس هذا ظلمًا؟!

ردّ التمثال الرخامي: يا صديقي البلاط، هل حقًا ما زلت تذكر أننا جئنا إلى هنا من نفس الطينة والمنبت؟!

قال البلاط: بالطبع أذكر؛ ولهذا أقول إنه ليس عدلاً أن نُعامل بطريقة تختلف! ثم أجهش في البكاء.

فردّ الرخام: إذن، يجب أن تذكر اليوم الذي أتى بنا النحَّات كي ينحتنا، وأنت أبيت أن تكون طيِّعًا ومَرِنًا فألقى بك جانبًا!

قال البلاط: نعم أذكر، وأكره جدًا ذلك الشخص الذي كان يضربنا بأدواته، إنّ ضربه مؤلم جدًا!

رد التمثال: هذا صحيح، ولهذا السبب تركك جانبًا!

فقال البلاط: وأين الخلل في أن أُقاومه؟!

فردّ التمثال: عندما ألقاك الفنان جانبًا أدركت بأنني يجب أن أكون طيِّعًا مرنًا وأتحمل ضرباته، علّه يصقلني ويُحولّني إلى شيء جميل.

تنهد البلاط معترفًا: نعم تلك هي الحقيقة!

فتابع التمثال الرخامي: يا صديقي البلاط، لكل شيء في الحياة ثمنه، عندما رفضت أن تتحمل ضربات النحات تحوَّلتَ إلى بلاط، وسمحتَ لغيرك أن يدوس فوقك!

أيها الأحباء: إننا نُشبه الرخام، والله الآب المُحبّ يُشبه النحَّات الذي كثيرًا ما يستخدم المطارق والأزاميل بضرباتها المتنوعة، في نحتنا وتشكيلنا، ليُصقلنا ويبرينا ويجلينا من خشونتنا ورعونتنا وأنانيتنا وغرائزيتنا التي تشوِّهنا. إنه - له كل المجد - يُشكّلنا ويؤدّبنا ويُصحِّحنا ويُصْقلنا بمعاملات وتجارب تبدو أنها مؤلمة ومُحزنة وقاسية. ولكي ما يحفظ أقدامنا في الطريق الصحيح، يستخدم معنا الطرق التأديبية القاسية لكي يُعتقنا من قوة الجسد، ويجعلنا شركاء في قداسته. وكل الآلام التي يسمح بها أن تأتي على أولاده، الغرض منها إمَّا التأديب أو التقويم، أو للإتيان بهم إلى اكتشاف خطية أو تعدّيات دفينة، والتغلب عليها. أو تكون للامتحان والاختبار، وبهذا يتقوون ويرتفعون إلى مستوى أسمى من الاختبار والمنفعة، أو تكون امتيازًا وشرفًا كشهادة للمسيح، من أجل اسمه وللتخبير بفضائله. فدعونا نكون صبورين، وندع تأديب الرب يعمل عمله في حياتنا. ولنثق أن آلام الحاضر تؤدي إلى الربح الدائم (عبرانيين12: 11).

لقد ظلت قطعة من رخام “الكارارا” مرميَّة نحو مئة سنة في فناء كاتدرائية بمدينة فلورنسا الإيطالية. ثم طُلب إلى نحَّات شابٌ، سنة 1501، أن يصنع شيئًا من تلك الكتلة الصخريَّة المُهملة. فقاس الكتلة، وتنبَّه إلى عيوبها، وفي ذهنه تصَّور فتًى راعيًا.

ثم قضى ثلاث سنين يعمل بإزميله في تلك الكتلة الرُّخامية، ويُشكِّلها ببراعة. وأخيرًا، عندما أُزيحت الستارة عن تمثال داود البالغ طوله فوق الستَّة أمتار، هتف تلميذ “مايكل أنجلو” - ناحِت ذلك التمثال - مُخاطبًا مُعلِّمه: “سَيِّدي، لا ينقصه إلا شيء واحد: أن ينطق!”

لقد كان “أُنِسِيمُسُ” أشبه بكتلة الرُّخام المعيبة تلك، فقد كان خادمًا هرب من خدمة سَيِّده “فِلِيمُون”. ولكنه وهو هارب تعرَّف بالنَّحات الأعظم، إلهنا العظيم، وإذ صار إنسانًا جديدًا، خدم الله بأمانة، وكان نافعًا جدًا لبولس في خدمة الرب. وحين أعاده الرسول بولس إلى “فِلِيمُون”، امتدحه بقوله إنه «كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلَكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لَكَ وَلِي» (فليمون11). وطلب من “فِلِيمُون” أن يستقبل “أُنِسِيمُس” من جديد باعتباره «أَخًا مَحْبُوبًا» (فليمون16).

أيها الأحباء: في وِسع الرب أن يُجري فينا تغييرًا عظيمًا، وأن ينحت صورته في حياتنا الناقصة، ويُجمِّلنا ويجعلنا نافعين أيضًا. ولكن لا بد من إزالة نتوءاتنا الخشنة لإبراز صورة المسيح فينا. فليتك، أخي المؤمن المتألم، تشكر الرب، بقلب كسير وإرادة مُخضعة، من أجل الأحزان والآلام التي فيها دخلت نفسك في الحديد، والحديد في نفسك، ففي آخر المطاف ستجد أنه «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أَكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ» (قضاة14: 14)، وأن «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رومية8: 28).

والرسول بولس، حينما أحسَّ بالشوكة المؤلمة والمُذِلة في جسده للمرة الأولى، تضرَّع إلى الرب أن يبعدها عنه. ثم عاد يلح على الرب إذ لم يحصل على جواب مباشر. ولكن عندما أتت إلى هذا القديس المتألم كلمة الله، اقتنع، وشبع: «فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ. فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كو12: 7-10). فإذا كانت ضيقاته - التي كان من شأنها أن تكسره وتُحنيه - قد أعطت قوة المسيح فرصة لكي تشمله، فيكفيه ذلك. لقد أصبح المسيح هو المنظور لا بولس. وهذا هو الواجب أن يكون.

ومن المؤكد أنه في يوم آتٍ سنرى كل الطريق الذي قادنا الرب فيه، وسنفهم فهمًا تامًا كل ما لحقنا من تجارب وأحزان كنا نحتاج إليها لتدريبنا وبركتنا. عندئذٍ سنكون قادرين أن نرنم ونبارك اليد التي قادت، والقلب الذي كان يرسم ويحنو. ولكن دعونا نرنم من الآن، ومن القلب، وبنغمة عالية صادقة:

أيها الفخاري ... صنعَتنْي يداك

جعلت مني إناءً ... منحتني حياة

رفعتني إليك ... أعطيتني سلام

غمرتني بحبك ... وهبتني سماك

حياتي أُسلِّمُك ... من قلبي أطلبك

شكّلني يا الله ... واحفظني لك

نفسي أترُكُ ... أبقى قُربَكَ

ولتشهد حياتي ... عن جودِ صُنعكَ

فايز فؤاد
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf