2013 120

ليتك تباركني

Bookmark and Share
تبدأ صلاة يعبيص بكلمة «لَيْتَكَ».  هذه الكلمة نجدها دائمًا تنبع من قلب ضارع صارخ للرب في إنكسار وإتضاع ولجاجة.  تَخرج دائمًا من قلب ملتهب جاد فيما يطلبه.

أدرك يعبيص أن البركة ثمينة وتستحق الجهاد الثمين.  صحيح أن خلاصنا بالنعمة، ولا يمكن أبدًا أن نناله بدون نعمة الله، لكن ذات النعمة تدرِّبنا أن نبذل كل اجتهاد كي نقدِّم في إيماننا فضيلة وتولد فينا الغيرة المقدسة وتنشئ فينا جوعًا وأشواقًا لحياة مباركة يُسَرّ بها الرب.

كم من المرات التي فيها نرفع للرب صلوات من قلوب باردة، بعبارات نردِّدها على شفاهنا على سبيل الاعتياد، حتى وإن كانت صحيحة وكتابية لكنها تخرج جافة كالحطب وباردة كالثلج.  أحيانًا نصلي ويغيب عنا أن الرب وازن الأرواح لديه ميزان حساس يزن به دوافع القلب كما أن عنده “ثرمومترًا” دقيقًا يقيس به حرارة صلواتنا.  إن الصلاة ليست مجرد تعبيرات أوعبارات، بل هي حالة قلب مكشوف لفاحص القلوب، يعرف مدى جدية المصلي ويقيس الصلاة لا بطولها وبلاغتها بل بعمقها وصدقها.

السؤال الذي يطرح نفسه هو ما المقصود بالبركة هنا؟  وماذا كانت تعني بالنسبة ليعبيص؟

البعض يرى أن بركة الرب يقتصر معناها في الخيرات الزمنية الوفيرة والممتلكات الكثيرة والعائلة الكبيرة ... الخ.  لكن هل هذه هي البركة التي يتلهف لها يعبيص؟

دعونا نرى بنعمة الرب ما تعنيه البركة التي طلبها هذا الرجل الفاضل في صلاته الفريدة.

البركة في حياة يرضى عنها الرب

ما أغناها بركة وأروعها غاية «حياة في رضاه» (مزمور30: 5).  الحياة المباركة هي التي تجلب السرور لقلب الرب.  الذي يضمن فيض السرور والشبع في حياة المؤمن هو أن يكون الرب راضٍ عنه وعن أهدافه ومساعيه وعن بيته وأولاده.  «امْرَأَتُكَ مِثْلُ كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ فِي جَوَانِبِ بَيْتِكَ.  بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ، هَكَذَا يُبَارَكُ الرَّجُلُ الْمُتَّقِي الرَّبَّ» (مزمور128: 3، 4).

“باركني برؤية ثغرك البسام مرتسمًا أمامي ومشاهدة نظرات الرضا في عينيك.  ليتك تكون راضيًا عني وعن أفراد أسرتي.  ليتك ترضى عن عبادتي وشهادتي.  ليتك ترضى حتى لو لم يرضَ الناس عني فيكفيني ويرضيني: رضاك يا مُنية القلب.  ليتك تباركني”.

البركة في حياة مثمرة ل`مجد الرب

بركة الرب في كثرة محبتنا وتعبنا للرب وازدياد تكريسنا وإثمارنا له.  ليتك تباركني بالعبرية تأتي “باركني بركة”، على منوال ما ذكر عن إيليا أنه “صلى صلاة”.  أي أن يعبيص لم يقل “بارك في مالي أو بارك في محصولي أو بارك في نسلي”، إنما اشتهى البركة الروحية التي تُغني حياة الإيمان وتجعلها نافعة للسيد، فيها يُكرم اسمه وفيها يتبارك الآخرين.

“يا رب، البركة بالنسبة لي ليست في عظمة اسمي بل في عظمة اسمك، ليس في اتساع شهرتي بل في اعلان مجدك.  البركة ليست في ارتفاع أرصدتي وامتلاء مخازني، بل البركة في ازدياد رصيد الكنوز التي في السماء حيث لا يُفسد السوس ولا يسرق السارقون.  البركة في حياة تثمر لمجدك ولخير قطيعك الغالي عليك.  باركني واستخدمني في كرمك.  باركني لأُشبع قلبك.  باركني بأن أكون واحد من الذين تستخدمهم لبنيان كنيستك.  ليتك تباركني”.

البركة في حياة التلذذ والشبع بالرب

ربما تأمل يعبيص حال إخوته وعشيرته في جيله، فوجدهم في فقر وإفلاس وهُزال روحي، وصار الضعف هو السمة الغالبة وصارت أمور الله بالنسبة للأغلبية ليست إلا روتينًا جافًا ومُضجرًا اعتادوا عليه وفقدت الحياة  طعمها ودفئها ولم يبقَ سوى الشكل بمظهره الجامد وبرودة الموت.  رفض حالة السطحية الكئيبة والعلاقة الشكلية الرتيبة، فتضرع للرب وخرجت من أعماقه تلك الصرخة التي هزت جدران قلبه “ليتك تباركني”.

ربما اشتهى يعبيص أن يدخل في علاقة حميمة مع ذلك الإله المحب الذي سار معه أخنوخ وتلذذ بحبه الغني، ذلك الصديق السماوي الذي صار إبراهيم خليلاً له، أعظم رفيق في رحلة العمر الذي كان يكلمه موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، ذلك الشخص المبارك الذي ارتجاه بولس وقال «لإعرفه» المعرفة التي لا تأتي إلا من خلال علاقة حميمة وشركة عميقة  بهذا الحبيب. أعظم بركة في حياة المؤمن أن يرى وجه الحبيب ويسير مع سيده كأفضل الرفاق.  جُلَّ مراده ومنية قلبه أن يتلذذ بالقدير ويستقي الهنا من ينبوع حبِّه النقي.

“باركني يا رب فإن مستودعاتك ومخازنك ملآنة بالجود والبركات.  رصيد بركاتك عظيم وإعلانات مجدك لم تنتهِ.  وأنا ألتمس منك البركة يا نبع البركات.  فأتلذذ بدفء حبك الغني ويُسبى قلبي وتُؤسر مشاعري بجمالك البهي.  باركني فأسند رأسي على صدرك الحنان.  احملني في حضنك كما يحمل الراعي حملانه الصغار وهم يركزون أنظارهم الهادئة من عيونهم الصغيرة على عينيك الممتلئة بالوداعة واللطف.  باركني فينمو حبي لك يومًا وراء يوم، وأزداد لك شوقًا، للوجود بالقرب منك؛ فأسمع صوتك العذب الرقيق الذي يمس شغاف قلبي ويلهب من جديد حبي لك.  فليتك تباركني”.

كيف أحيا بالفُتات يومي               ومسيحي مُنبت عشب الحقول

    ولِما أدنو إليك وأعود                  أنت للعمق تنادي بالدخول

لن أتطلع إلى من حولي، ولن أضيع عمري في الأنين والشكوى ومرثاة الحال؛ لكن سأمسك بك ولن أتركك إن لم تباركني.
أيمن يوسف
 

الصفحة الرئيسية - إتصل بنا - نبذة عن المجلة

كتّاب المجلة - أعداد نحو الهدف السابقةصفحة البحث

©2010 Nahwal Hadaf